الجمعة، يوليو 10، 2020

الطب النفسي: عجزٌ "الحديث" ولجوءٌ إلى "القديم"


بُنيِت دعوى العلم الحديث على اختزال الظواهر الإنسانية جميعها إلى "الطبيعة" وعلى الالتزام بالاستخبار التجريبي للواقع بحيث إنّ هذا الاستخبار وحده كافٍ في فهم وتفسير الظاهرة الإنسانية برمتها. وبالتالي، فلا شأن للعلم الحديث بـ "غير المرئي" الذي لا يمكن معاينته وقياسه؛ أي أنّ العلم الحديث ينكر الغيبيات والروحانيات وينكر أثرها على الواقع الإنساني المُشَاهَد كما هو معروف. وقد اشتدت هذه الدعوى في القرن التاسع عشر، وأضحى العلم الحديث أمل الإنسان الأوروبي الذي سعى لنشره في أنحاء المعمورة. يقول إرنست رينان (1823 – 1892)  الفيلسوف الفرنسي المؤمن إيمانًا عظيمًا بالعلم أنّ أيّ حقيقة يمكن الوصول إليها عن طريق اختبارها في مختبرين لا ثالث لهما: الطبيعة والتاريخ. ومن المقرر أن هذه الدعوى مستمرة إلى اليوم لولا بعض العلماء الذين خرجوا عليها بعد أن أدركوا عدم كفايتها.

            نشأ الطب النفسي الحديث ابنًا بارًا للعلم الحديث المعتمد على الطبيعة وحدها في فنّي التشخيص والعلاج. فالتشخيص لن يعدو أن يكون مرضًا عارضًا لنقص كيميائيٍ في المخ البشريّ، وهو أقلّ ما يمكن الاختزال إليه، والعلاج بالتالي لن يكون سوى تعويضٍ لنقص هذا المركب الكيميائي. فعلى سبيل المثال، إذا شُخّصَ المريض بالاكتئاب، فهذا يعني نقص "السيروتونين" والعلاج بالتالي سيصبح أدوية تشتمل على "السيروتونين" لتعوّض النقص الداخلي بمكمّل خارجي.

            لا يزال "الطب النفسي" يعمل في علاج الأمراض النفسية في الشرق والغرب على أساس نظرية العلم الطبيعي التي لا تتيح له أن ينظر لغير كيمياء المخ. ولكنّ طريقة العلاج الدوائي انتُقدِت وخولفت في أوروبا منذ منتصف القرن العشرين تقريبًا. وأدرك بعض أطباء النفس مبكرًا في أوروبا والولايات المتحدة إخفاق نموذج الطب الحديث في علاج الأمراض النفسية التي تزايدت بشدة بسبب الحروب وعملية التحديث المتسارعة التي لم تتوقف عن اجتياح العالم كله في القرن الماضي.

وانعطف بعض أطباء النفس الذين أدركوا هذا الاختزال الكبير والقصور العظيم في نموذج الطب الحديث إلى الفلسفات والأديان ليجدوا إجابات تعينهم على تطوير أساليب علاج "إنسانية." أي أنّهم عادوا إلى ما أنكره العلم الحديث ابتداءً.

من أبرز هؤلاء الطبيب النفسي الشهير "فيكتور فرانكل" (1905 – 1997) الذي نجا من أربعة معسكرات اعتقال نازية كتَبَ تجربتها في كتابه ذائع الصيت "الإنسان يبحث عن معنى." أصرّ فيكتور فرانكل أن أكبر محرّك للإنسان هو "الإرادة للمعنى" وليس "الإرادة للقوة" كما يقول نيتشه وليس "الإرادة للّذة" كما يقول فرويد. وأثناء محاولته مساعدة مرضاه ذوي الميول الانتحارية على إيجاد معنى في حياتهم، لينقذهم من الانتحار عاد فرانكل إلى "الفلسفة" وإلى "الدين" فبعد أن تحصّل على درجة الدكتوراه في الطب، درس لدرجة الدكتوراه في الفلسفة وقدم أطروحة أصدرها في كتاب بعنوان "الإنسان يبحث عن المعنى النهائي." وقد عاد فرانكل للمفاهيم الفلسفية ليؤسس اقترابه العلاجي على ثلاثة مفاهيم فلسفية: حرية الإرادة والإرادة للمعنى والمعنى في الحياة.

ومن هؤلاء الأطباء الذين خرجوا على الطب الحديث: الطبيب الأمريكي آرثر دايكمان (1929 – 2013) الذي تحدّى المقرّرات الطبية واعتماديتها على العلاج الدوائي للمرضى المُشَخصّين بالاكتئاب والذُّهان والفصام، ورامَ علاجًا "إنسانيًا" للمصابين بهذه الأمراض. عاد دايكمان إلى "الأديان" يلتمس الشفاء لمرضاه، فتتلمذ إلى مُعلّمٍ في الروحانية البوذية وإلى مُعلمٍ في التصوف الإسلامي. واستطاع دايكمان أن يبحث "حالات التأمل" المختلفة بحثًا علميًا. وأصدر كتابه بعنوان "النفس المُراقِبة: الروحانية والعلاج النفسي" يدرس فيه حالة تُعدّ "عبادة" في التصوف الإسلامي وممارسة لابد منها في الروحانية البوذية، ويدرس إمكانيتها في العلاج النفسي لأمراض عجز ت المركبات الكيميائية أن تعالجها.

أمّا الطبيب النفسي الأمريكي جيرالد ماي (1940 – 2005) فقد ربط بين الطب النفسي والدين وعلى الأخص الثيولوجيا المسيحية. وكان يعقد الورش العلاجية التي تجمع بين التأمل الديني المسيحي وعلم النفس في الولايات المتحدة. ومن أهم كتبه "الإرادة والروح."

ومنهم كذلك، الطبيب النفسي الأمريكي "جون كابات- زن" (1944- الآن) وهو أكثر من جمع بين الطب النفسي والبوذية. مارس التأمل البوذي على يد معلمين بوذيين ودرس "اليقظة" و"التأمل" درسًا علميًّا وأنشأ عيادات متخصصة لتخفيض التوتر والضغط العصبي عن طريق اليقظة والتأمل انتشرت في مستشفيات الولايات المتحدة في التسعينيات. ولكنّه أصرّ على رفض الإطار البوذي وأقرّ التأمل في إطار علمي بعد البحوث المكثفة التي أجراها لإدخال "اليقظة" و "التأمل" في أدبيات الطب النفسي الحديث.

            وقد استطاعت المعالجة النفسية "مارشا لينهان" (1943 – الآن) أن تعتمد على بحوث الأطباء الأربعة السابقين وتطور علاجًا مركبًا لأحد اضطرابات الشخصية التي عجز الطب الحديث أمام علاجها عجزًا بالغًا، وهو اضطراب الشخصية الحدية. بل أضافت مارشا لينهان لقائمة مراجع دليلها العلاجي مراجع في الأديان مباشرة، وليس فقط أبحاثًا علمية تدرس الظواهر الروحانية. فرجعت لكتاب "اليقظة" لكاتبه الراهب البوذي "هان" (1926 – الآن)  وكتاب "أغنية الطير" للقسّ الهندي أنثوني دي ميلو (1931 – 1987) وكلاهما كتابان دينيان.

وأخيرًا  نذكر الطبيب النفسي الأمريكي ديفيد هاوكنز (1927 – 2012) الذي بدأ طبيبًا نفسيًا وانتهى "معلمًا روحيًا" ومن أشهر منجزاته رسم "خريطة الوعي" التي توضح الحالات النفسية والعاطفية للإنسان ومقابلها الروحاني. ومن خلال أبحاثه المتتالية أنه لا يمكن اختزال الإنسان إلى الجسد فضلاً عن "الكيمياء" وأنّ محاولة الأدوية التعويض الخارجي للنقص الكيميائي الداخلي يحرم  المريض والإنسان من فرصة التجربة الروحية التي سيُعالَج من خلالها ويترقّى روحيًّا. وأكد أنّه لا يمكن للعلاج النفسي أن ينجح سوى بأخذ ثلاثية: الجسد، والعقل والروح في الاعتبار. غير أنّ الروح لا يمكن رؤيتها كما هو واضح، وإدخالها في العلاج النفسي الحديث يعني خرقًا جوهريًا لمسلمات العلم الحديث التي سادت دعوتها في القرن التاسع عشر وبشرّت بتقدم إنساني كبير الذي على ما يبدو ضلّ طريقه إلينا.

الاثنين، يوليو 06، 2020

آدابنا

آدابنا
الشيخ مصطفى عبد الرازق

يحزننا أن نقرأ في كثيرٍ من الصحف أخبارًا عن تعرض فتياننا في الميادين والطرق للمحصنات من النساء عل وجهٍ خلوّ من الذوق ومن حسن الأدب حتى لبلغ التبرم من السيدات فيما يروى أنهن خرجن من حلمهن ورفقهن إلى صفع أقفيةٍ جامدةٍ نشفق من مسّها على تلك الأكف الناعمات، وحتى لروي في بعض الجرائد أنّ طالبًا انقضّ على فتاة في العتبة الخضراء يقبلها فزحزحه الشرطة عنها ليقودوه إلى القسم.

يحزننا أن تكون مظاهر آدابنا على هذا المثال القبيح في جيلٍ ناهض نعتمد على وطنيته وأخلاقه في تحقيق آمالنا القومية الكبرى. ولئن قلنا مع القائلين إنّ الذين يتعرضون للسيدات في الطرق ليسوا إلاّ من السفلة الأدنياء فما هو بمانعنا أن نتألم لأنهم على كل حال من قومنا أولئك السفلة الأدنياء.

            نتحسر لسقوطهم في أنفسهم ونشفق من آثار عملهم السيء في تشويه سمعتنا الأخلاقية وفي الجناية على نفوس أطفالنا اللينة التي تتكرر عليها هذه المشاهد في غدوها ورواحها وما كان يصح لنا أن نلجأ إلى السلطات الحكومية في زجر أولئك الأشرار عن غيهم ووقاية آدابنا ونسائنا من أذاهم.

            وإنّ السلطة التي تسن الشرائع لإقفال المحال العمومية متى تمت الساعة العاشرة مساءً حرصًا على بعض الجنود أن يسرفوا في شرب الخمور وغشيان الملاهي لقادرة أن تسن من القوانين ما هو أقلّ كلفة وأضعف مظهرًا في الحركة الاجتماعية لحماية السيدات الكريمات من مضايقة السفهاء من الرجال. ولكننا نكره أن تكثر القوانين قيودًا لحرية الناس ونحن في هم من قيود كثيرة فما يكون لنا أن نتمنى لها مزيدًا.

            نكره أن يظهر  طابع الرهبة والخوف من العقاب حتى في آدابنا ولوددنا أن يفهم قومنا جمال الفضائل وقبح الرذائل فيرغب أبناؤنا في الاحتشام والأدب بمثل الذوق الذي يرغبهم في جمال الهندام ورشاقة الحركات. ولأبنائنا في هذا المعنى ذوق مصقول. نعلم علمًا ليس بالظن أن نظامنا الاجتماعي القاضي بحرمان المرأة والرجل من الاختلاط النافع في غير ريبة والتعارف في ميدان الحياة تعارف النظير إلى النظير، كل ذلك جعل صورة المرأة في خيال الرجل صورة متاع مادي، ولا يخلو من هذا الشوب ما يقوم في نفوس النساء من صور الرجال.

            ولهذا المعاني بلا ريب عمل في نقص آداب المعاملات عندنا بين الرجل والمرأة. يا حبذا لو قدرنا على تفهيم رجالنا أن المرأة إنسانة لها إحساس وعقل إلى جانب ما فيها من لطف و جمال واستطعنا تعليم المرأة أن الرجل شريك لها يتعاونان معًا في العمل على سعادة المجموع واحترام حرية الفرد.

            لو استطعنا هذا لارتقى ما في عقول الجنسين من معنى العلاقة بينهما في الحياة ولزالت حدة الشره الجسمي اللاعب بتلك العقول المريضة. ألا إنّ ذلك سعي المصلحين وهو – بإذن الله – سعي منجح ونحن نطلب المعونة عليه إلى كل غيور في هذا البلد على الحرية والأخلاق والآداب. و ننصح لفتياننا أن يرعوا كرامة أمتهم وكرامة السيدات، بل أن يرعوا كرامة أنفسهم وكرامة الحرية الشخصية التي نسعى إليها جميعًا بحسن الأدب في المجامع وملتقى الناس.

السفور: العدد السادس. السنة الأولى. يوم الجمعة 12 شعبان 1333 هـ الموافق 25 يونية سنة 1915 م


الخميس، يونيو 25، 2020

فيكتور فرانكل يتكلم علن "البحث عن المعنى"

يتحدث فيكتور فرانكل، الطبيب النمساوي في هذا اللقاء عن العلاج بالمعنى، يقول: 



1. ما الفرق بين هؤلاء الذين يمكنهم التغلب على مشكلاتهم والآخرين الذي لا يمكنهم؟ 

العامل الأهم هو حرية اتخاذ القرار: أريد أن أتصرف باعتباري كائنًا مسؤولاً على رغم الظروف 

2. ما مدى سهولة التعرف على المعنى في حال اليأس؟

"اليأس هو المعاناة بلا معنى" ووفي بعض الأحوال يصل اليأس لحالة الانتحار. 

3. ما إجابة سؤال: لماذا يحدث هذا لي؟ لماذا أنا؟ 

لا يمكن لعالم نفساني أن يجيب على هذا السؤال. لكنّني لن أوافق جان بول سارترقوله أنّنا يجب أن نقبل انعدام المعنى بشجاعة وإقدام. ولكن ما أعتقده هو أنّنا علينا أن نقبل عدم مقدرتنا على فهم المعنى المطلق من زاوية معرفية أو عقلانية. هذا هو الشيء الوحيد الذي علينا قبوله. ويمكننا الإيمان بمعنى مطلق والأخذ بيد المريض لطريق الإيمان. وهي مهم يحملها الطبيب النفسي على عاتقه. 

4. إلى أيّ مدى لدينا حرية في اختيار ما يحدث لنا؟ 

حرية الإنسان حرية متناهية وحرية محدودة. الإنسان ليس حرًا من الشروط سواءكانت ظروف بيولوجية أو نفسية أو اجتماعية. ولكن الحرية المطلقة داخلنا هي حرية اتخاذ موقف تجاه أي ظرف يواجهنا. 

ويقول فرانكل: "كلما جعلت من السعادة هدفًا كلما صَعُبَ عليك الوصول إليها" 
"في اللحظة التي لا تفكّر فيها في السعادة أو اللذة، وتسلّم نفسك فقط سواء كان هذا في وظيفة أو في حب أو في لذة، في تلك اللحظة التي لا تكترث فيها أن تكون سعيدًا أو ناجحًا. في هذه اللحظة تجد السعادة بالفعل. 



السبت، يونيو 20، 2020

الهوية والطبيعة والمجال الحميمي


المجال الحميمي ليس أساسًا للهوية

تقسّم حنّا آرندت مجالات نشاط الإنسان إلى ثلاثة: المجال العام والمجال الخاص والمجال الحميمي.
وترى أنّ التجربة التي وجدت فيها هذه المجالات الثلاثة متمايزة ومنفصلة هي التجربة اليونانية. ففيها، كان كل نشاط للإنسان محدّد في مجال: فالمجال الخاصّ هو مكان الأنشطة الضرورية الشرطية لبقاء الإنسان على قيد الحياة، مثل تأمين المأكل والرعاية؛ والمجال الحميمي هو مجال حماية الحب وممارسته وهو  أخصّ من المجال الخاصّ؛ أمّا المجال العام فهو المجال السياسي الذي يمكن فيه بالفعل التحقق بالحرية، بعد أن جعل المجال الخاص ذلك ممكنًا بتأمينه الضرورات.

وترى آرندت أنّ التجربة الحداثية قد ألغت المجال العام لصالح صعود المجال "الاجتماعي" وبالتالي لم يعد هناك مجال من الممكن أن يمارس فيه الإنسان حريته الحقيقية. إذ مع الحداثة، أصبحت الدولة هي من يُناط بها تأمين ضرورات الحياة، وبالتالي أخذت دور المجال الخاص الذي كان منوطًا به هذا الدور من قبل. وبشكلٍ ما، ترى آرندت أن المجتمع ككل أصبح كالبيت الكبير الذي يجب تدبيره على مستوى الدولة، وبالتالي فقد المجال الخاص استقلاليته في تأمين ضرورات الحياة. كما فقد المجال العام إمكانَ الحرية. (للمزيد عن النظرية السياسية لآرندت، راجع كتابها "الشرط الإنساني)

ما يهمنا في هذا التقسيم الثلاثي هو أنّ أيَّ ممارسات في المجالين الخاص والحميمي لا تصلح أن تكون وسيلة لأن يعرِّف بها الإنسان نفسه.

قديمًا كان الإنسان يعرّف نفسه بالنسبة لقبيلته، أو موطنه، أو مكان إقامته، أو غيرها من صلات.  وفي العلم والفلسفة على سبيل المثال، كانت الاختلافات العلمية والدينية والفلسفية أساًسًا للتعريف في المجال العام، مثل أن يقال: "الفيثاغوريون" مثلاً  أو "المعتزلة" وهكذا. في واقعنا المعاصر، أضحت "المهن" هي أساس تعريف الإنسان تقريبًا ففلان مثلاً طبيب أو مدرّس أو صحفي وهكذا.

لم يكن أيٌّ من الممارسات في المجالين الخاص والحميمي أساسًا لتعريف مجموعة من الناس. ويجب أن يظلّ أساس تعريف الشخص في المجال العام هو المعرّفات الظاهرة المُشَاهَدَة. 

ربما لم تكن حنّا آرندت لتَتَصوّر أنّ صيرورة الحداثة ستؤدّي إلى أن يُلغى الفارق والفاصل بين المجالين الحميمي والعام، ليصبح ما يمارسه الإنسان في المجال الحميمي أساسًا لتعريفه في المجال العام أو ما يسمّى الآن "هويته." إذ كيف يخرج الأمر "الخاص جدًا" الذي لا يصرّح بأن يُشاهَد مطلقًا (وإن في المجال الخاص)  إلى شهود المجال العام؟
يمكننا أن نتساءل الآن : ما الهوية؟ لنقل أنّ الهوية هي ما يدرك الإنسان نفسه به، أو ما يدركه به الآخرون، أو ما يقرر أنه منظوره لإدراك العالم. فإذا قلنا مثلاً: الليبراليون فهم أتباع مذهب الليبرالية الذي يرون أنفسهم والعالم من خلال مقولات مذهب الحرية الفردية الأساسية، ويحددون مواقفهم وسلوكياتهم بناءً عليه.

دعونا نتصور الآن إذا ما حدّد الشخص "هويته" بناء على ممارساته في المجال الحميمي، فما صورة إدراكه لنفسه وللعالم وتحديده لسلوكه ولمواقفه، وكيف يكون إدراك العالم له؟ سؤال ربما سيجيبنا عليه صيرورة المجتمع الأمريكي.

جدل الطبيعة وانحرافها

في الحقيقة، فإنّ ميل الرجال للرجال، وميل النساء للنساء موجود قدمَ البشرية؛ إذ حدّثنا القرآن عن قوم لوط ""إنّكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء" (7: 81).

 الممارسة موجودة منذ القدم: في الأمم القديمة الغابرة مثل قوم لوط، ووجدت عند اليونان والعرب، وجميع الأمم، تمامًا مثلما وجدت ظواهر قديمة قدم الإنسان مثل القتل، القتال، الحرب، السرقة.... وغير ذلك، وستظل موجودة ما دام الإنسان موجودًا؛ لأنها مناط الاختبار الحقيقي لكل فعل يختاره الإنسان سواء في المجال الحميمي أو الخاص أو العام.  في كلٍّ منهم، لدى الإنسان حرية الاختيار بين الجميل والقبيح، بين الصحيح والخطأ، بين الحق والباطل.

السؤال عن "طبيعة" الشيء، وبالتالي السؤال عن ما الانحراف عن الطبيعي سؤال متأثر  بالمنظور المسيحي؛ إذ في المسيحية، يمكن التساؤل بشأن "الطبيعة" وهو تساؤل نشأ من اللاهوت الذي انشغل بالسؤال عن طبيعة المسيح.

في الإسلام، لا نسأل عن الطبيعة فضلاً عن انحرافها أو شذوذها، بل نسأل عن "الحقيقة" وعن "الحق" وعن "الحسَن" في الأفعال والأقوال. ندرك إذًا أنّ جميع الموجودات هي اختيارات وإمكانات للإنسان.

في المجتمعات المسيحية أو ذات التاريخ المسيحي، سُمّي ميل الرجل للرجل، والمرأة للمرأة "شذوذًا" لأنّ هذا الوصف كان إجابة السؤال: هل هذه الممارسة طبيعية؟ أم هي انحراف عن الطبيعة؟ وبما أنّها انحراف فهي شذوذ. ثمّ ألحق "الشذوذ" بالأمراض، لأن الأمراض انحراف عن الطبيعة من وجهة هذا المنظور.

ثمّ كانت محاولة المجتمع الأمريكي إخراج هذه الممارسة من إطار الأمراض ونزع صفة الانحراف والشذوذ عنها، وتسميتها باسم "محايد" مأخوه من اللغة اللاتينية، وهو اللفظ "هومو"  ليصبح ميل الرجل لمثيله الرجل، والمرأة لمثيلتها المرأة يسمّى "المثلية." ثمّ  تطرّف الأمريكيون ليجعلو ا ممارسة خاصة جدًّا أساسا للهوية في المجال السياسي.

في الإسلام، لا يعنينا في الحقيقة هذا الجدل، وما نتج عنه من أسماء ومصطلحات: شذوذ، مثلية. لأننا لا نسأل سؤال الطبيعة من الأساس. في الأفعال، فإنّ السؤال الإسلامي هو السؤال المتعلّق بالحسن والقبح. كما لا يعنينا ما نتج عن هذا الجدل من تصورات: مرض/ ليس بمرض/ هوية، وما نشأ عنه كذلك من اضطهاد للمتلبسين بهذه الحال.

السؤال الإسلامي هو السؤال عن "الحُسن والقُبح" وكلاهما متاح للإنسان، فللإنسان أن يختار القبيح وبإمكانه أن يختار الحَسَن. هذا الفعل إذًا ليس بطبيعي وليس بشذوذ وليس بمرض، هو فعل قبيح مثل سائر الأفعال القبيحة ، وبالتالي فهو إمكان وقابلية لدى أي إنسان، وهو مجال ليختبر فيه حريته ومقدرته على اختيار  فعل الحسَن واختيار  عدم إتيان القبيح، والذي يحتاج بالضرورة لجهاد ومجالدة نفس إذا ابتلي الإنسان بميل مثل هذا.

وبالتأكيد، فلا يصح أن يخرج أي فعل من أفعال المجال الحميمي ليكون أساس للهوية في المجال العام، فضلاً عن أن يكون أساسًا لتكوين مجموعات ذات ظهور وذات نشاط سياسي مثل المطالبة بحقوق بناءً على تحديد هوية متعلقة  بهذه الممارسة.

يوجد صفة واحدة للظهور في المجال العام وهو صفة المواطنة. المطالبة بالحقوق تأتي بناء على هذه الاعتبارية وفقط.

 نُشر في 28 سبتمبر 2017

x

الخميس، يونيو 18، 2020

في "معنى" الانتحار

                                                                                                                                        
عادةً ما تثير حالات الانتحار التي تخرج إلى العلَن زوبعةً إعلامية بسبب الفزع من الانتحار في ذاته. ولكن حالة الشابة المصرية "سارة حجازي" أثارت إلى جانب الانتحار، جدلاً مركبًا متعلقًا بالمثلية والسجن والإلحاد. ولكن وجود المتلازمات الأخيرة لا يمكن أن تُقبَلَ عِلَلاً  للانتحار. إذ تحدث حالات انتحار أخرى في غيابها، كما إن "سارة حجازي" قد حصلت على اللجوء والأمن في كندا، واستطاعت أن تعيش مثليةً وملحدةً هناك. فلا يمكن إذن اعتبار هذه المتلازمات أسبابًا كافية للاندفاع نحو الانتحار.

لا ريب أنّ الانتحار عُرف قديمًا، إذ ورد ذكرُ هذه المادة "نحَرَ" في معاجم اللغة، يقال: "انتحر الرجل أي نحرَ نفسه" لكنّ انتشارُ الانتحار ظاهرةٌ حديثةٌ نسبيًا. إذ تدلنا بعض الكتابات والأحاديث التلفزيونية أنّ الظاهرة كانت منتشرة إلى حدٍ كبير في الولايات المتحدة وأوروبا في مستهلّ القرن العشرين. بل وتدل بعض الكتابات أنّ حالات انتحارٍ قليلة - ولكن مؤثرة - كانت تحدث في مصر، إذ كتب الشيخ مصطفى عبد الرازق (1885 – 1947) في جريدة السفور مقالاً بعنوان "الانتحار" نشر في 21 مايو 1915 يقول فيه: "تزداد عندنا حوادث الانتحار وتنتشر في جوانب القطر وبين مختلف الطبقات. وإنّ المطّلع عل صحفنا، المتتبع لأحاديث مجالسنا ليحس بارتياع الناس من شيوع ذلك العارض الاجتماعي أشد من ارتياعهم لتلك الحميات الوبائية الذاهبة في طول البلاد وعرضها." وعرَ ض الشيخ مصطفى عبد الرازق لبعض حالات الانتحار التي قرأ عنها في الصحف في ذلك المقال.

ويربط بعض الأطباءالنفسيين مثل العالِم النفساني فيكتور فرانكل (1905 – 1997) بين "الحداثة" وشيوع الانتحار، قائلاً: "تيسرت الآن وسائل الحياة لكثيرٍ من الناس، ولكن لا يوجد لديهم معنى للحياة من أجله." وكان فرانكل من أوائل الأطباء الذين انتبهوا لظاهرة شيوع الانتحار انتباهًا شديدًا في عشرينينات القرن العشرين. وعزا هذه الظاهرة إلى "فقد المعنى" حيث يرى فرانكل أنّ "المعنى" من الدوافع المركزية لسلوك الإنسان، وبدون المعنى قد يفقد الإنسان "حياته". استطاع فرانكل تطوير طريقة "العلاج بالمعنى" التي استفادها من الفلسفة وأدخلها في وسائل الطب النفسي الحديث. وفي أعوام 1928 – 1930  أنشأ فرانكل مراكز مشورة لمناقشة العدد الكبير لحالات الانتحار وسط الشباب. نجح هذا البرنامج فلم يُقدِم أيّ شاب على الانتحار في فيينا عام 1931.

ولكن "فقد المعنى" الذي يرى فيكتور فرانكل أنّه سبب شيوع الانتحار بين الشباب، ليس هو السبب الأوحد لإقدام إنسانٍ ما على إنهاء حياته. ثمّة سببٌ آخر وهو "الألم" أو فلنقل هو "الألم غير المحتمَل."

يرى الإمام أبو حامد الغزالي (ت 1111 م)  أنّ الإنسان لا يُؤثر الموت على الحياة إلاّ لمقاساة ألمٍ لا يصبرُ على احتماله. يقول الإمام أبو حامد الغزالي: "إنّ المحبوب الأوّل عند كلّ حيٍ نفسُه، ومعنى حبّه لنفسه أنّ في طبعه ميلاً إلى دوام وجوده، ونُفرةً من عدمه وهلاكه لأنّ المحبوب بالطبع هو الملائم للمحب، وأيّ شيءٍ أتمّ ملائمةً للإنسان من نفسه ودوام وجوده؟! وأي شيءٍ أعظم منافرةً من عدمه وهلاكه؟! فلذلك يحب الإنسان دوام وجوده ويكره الموت، ولا يحبّ الموت إلا لمقاساة ألمٍ في الحياة، فإنما يحبّ زوال الألم." إذن فإيثار الموت إنهاءً للألم حالةٌ معروفة في الزمن القديم.

والألم غير المتحمّل الدافع للانتحار قد يكون ألمًا نفسانيًا وقد يكون ألمًا جسمانيًا. فالأخير قد يطول أمده فيغدو مزمنًا، ويدفع المتألم للتفكير في الانتحار. تقول الصحفية الأمريكية جودي فورمان، مؤلفة كتاب "أمّة في ألم" الصادر عام 2014 أنّ المريض ذي الألم المزمن معرّض للتفكير في الانتحار مرّتين أكثر من المريض الذي ليس لديه مرض مزمن مؤلم. ورصدت في كتابها العديد من الحالات التي تقدم على الانتحار بسبب الألم الجسماني المزمن الذي لا أمل في شفائه. أمّا الألم النفساني المسبب للانتحار فتعريفه بحسب  المركز القومي الأمريكي للصحة " مزيجٌ من الشعور بالعار والذنب والإهانة والوحدة والخوف والقلق والهلع." وهذه المشاعر شديدةُ السلبيةِ والدنوّ فلا تستطيع إمداد الإنسان بالطاقة الكافية اللازمة للاستمرار في الحياة واحتمال آلامها؛ وذلك بحسب طبيب النفس الأمريكي ديفيد هاوكنز (1927 – 2012) الذي قال أنّ أدنى المشاعر هو الشعور بالعار، ولا شعور آخر أدنى منه، وهذا الشعور لا يستطيع إمداد الإنسان بطاقةٍ للحياة بل لا يستطيع الإنسان تحمله لأمد طويل، فيلجأ إلى الانتحار.

ويمكن أن نركبّ نظرية الألم مع نظرية المعنى فنقول إنّ الألم الذي لا معنى له أو الألم غير مفهوم المعنى قد يكون دافعًا أشدّ للانتحار.

يموت المنتحر وسرّه معه، أو فلنقول ألمه معه، ولا يستطيع أحد أن يتكهّن على وجه الحقيقة لمَ قرّر المنتحر مبكرًا جدًا أن "لا أمل" بمقدوره أن يغلِب الألم، أو أن لا معنى يمكنه أن يسمو بالألم إلى شعورٍ أعلى يربطه بالحياة لا بالموت.




x