الجمعة، يوليو 12، 2013

ما الذي جاء بك إلى سريبرينيتسا؟


"ما الذي جاء بك إلى هنا؟" هكذا سألتني أستاذة الخدمة الاجتماعية في جامعة دينفر "آن بيتريلا"  بدا لي السؤال في البداية غريبًا! إذ كيف تسألني زميلةٌ مشاركةٌ في "جامعة سريبرينيتسا الصيفية" عن سبب مشاركتي في برنامج صيفي لدراسة إبادة سريبرينيتسا، بعد أن بذلت جهدًا في طلب التقديم، وتضخمت مشاقًّا في الحصول على الفيزا، وقطعت البحر المتوسط إلى إستانبول ثمّ إلى سراييفو ثم إلى سريبرينيتسا!! تذكّرت لوهلة أنّني أمام أستاذة أمريكية تريد تسويغًا مقبولاً لأيّ فعلٍ يُفعل ، إذ كيف للأمريكي أن يستوعب لمَ يبذل الجهد والوقت والاهتمام لدراسة جزء صغير من تاريخ هذا الجزء من العالم دون تسويغ عقلاني مقبول؟

حينما حدث الاعتداء على البوسنة في عام 1992، كنت في الصف الأول الإعدادي في مدرسة المريجب الإعدادية  في مدينة العين في دولة الإمارت. وكالعادة المتبعة في مدارس الإمارت، كانت الأنشطة المدرسية متجهة دائمًا للارتباط بحدث ما جللٍ يحدث في "الأمة الإسلامية" وكان للبوسنة النصيب الأكبر في ذاكرتي وتكويني النفسي والعاطفي الإسلامي في مرحلة المراهقة؛ إذا استمر الاعتداء على البوسنة ثلاث سنوات 1992_1995 وهي الفترة التي كنت أدرس فيها في المدرسة الإعدادية. كان نشيد "سراييفو" هو النشيد المفضل لدى إدارة النشاط المدرسي لبثّه عبر مكبرات الصوت في الفسحة المدرسية _وهي الفسحة التي من المفترض للتلميذات أن يمرحن  فيها إلاّ أنه ولسبب ما كنا نقضي الفسحة ثمّ نعود إلى الفصول على وقع هذا النشيد_  والذي مطلعه:

نناديكم وقد كَثُر النحيب نناديكم ولكن من يجيب
نناديكم وآهات الثكالى تحدثكم بما اقترف الصليب
سراييفو سراييفو

وحين كانت الطائرة تهبط بي في مطار سراييفو، ظلّ هذا النشيد يتردد على مسامعي، واستحضرت ذاكرتي كلّ مرات البكاء والعزوف عن الراحة في الفسحة المدرسية بسبب هذا النشيد الذي ظلّ هو النشيد الأساسي في الفسحة مدة ثلاث سنوات_وربما كان عدد مرات سماعه تفوق عدد مرات سماع النشيد الوطني لدولة الإمارات_، ثمّ لعبي لدور "الفدائي"  في مسرحيات مدرسية عن البوسنة، كان يتلوها دائمًا معارض منتوجات يدوية يذهب ريعها_والذي لم يكن قليلا_ إلى البوسنة. وحين عاينت البوسنة الجميلة، وبدأ البرنامج،  بدأت هذه الذاكرة الشخصية المراهقة تتراجع إلى الوراء، لأبدأ في معايشة تجارب حية لأهل هذه البلاد أثناء الحرب، ثمّ قصص الناجين من الحرب ثم آثار الحرب التي مازالت البوسنة وناسُها يعيشونها إلى اليوم.

حين بدأت المشاركة في البرنامج، توقعت _بسبب هذه الذاكرة المشحونة عاطفيًّا_ أن أجد ذكرًا ما للعرب أو المسلمين أو الأمّة الإسلامية، عن دورهم مثلاً في الدعم أو التضامن! ولكنّي وجدت عوضًا عنه نكتة: "حين حدث الاعتداء على البوسنة، تفاجأ العرب أن هناك مسلمين أغلبية يعيشون في هذا الجزء من أوروبا، وسارعت دول الخليج بإرسال "التمر" للاجئين والمنكوبين، لم يعرف البوسنيون التمر من قبل، فقالوا: ما هذا ؟ إنّه من الممكن أن ننتج منه خمرًا" ولمن لم يزر البوسنة،  فإنّ المسلمين في البوسنة متصالحون جدًا مع الخمر ولا يرون فيها بأسًا، إذ إنّ الإسلام للأغلبية المسلمة ثقافة وليس تدينًا. وفهمت حينها، كيف يجري توظيف مفهوم "الأمّة" توظيفًا عاطفيًّا فقط لإشباع الذات العربية المسلمة الضعيفة، وأنّه في الحقيقة لا أثر لهذا المفهوم _البتة_ في أرض الواقع، على الأقل في حالة حرب البوسنة 1992-1995.

بالتأكيد، لم يكن هذا هو الدافع الذي أفصحت عنه لزميلتي الأمريكية، وهو وإن كان دافعًا باعثًا، فإنّ الدافع المحرّك كان أمرًا آخر وهو الذي أفصحت عنه لمحدّثتي. قلت لها إنّ  متابعتي للثورة السورية، جعلتني أقدّر أنّ القتل الذي يحدث فيها هو قتل مخطط له  منذ زمن، ما جعلني أرجح أنّ عملية القتل فيها ممنهجة. وهذه المتابعة نفسها هي التي جعلت أقرأ عن (الإبادة الأرمنية) وهي الإبادة التي حدثت بعض وقائعها على الأراضي السورية. اقتادني هذا التفكير إلى الرغبة المستقبلية في دراسة نمط الإبادات وكيفية توظيف الدين فيه، ودراسة كيف أنّ فعل الإبادة كامن في كل أمّة بصرف النظر عن دينها. ففي حالة الإبادة الأرمنية 1915، قتلت الأمة التركية العثمانية الإسلامية الأرمن المسيحيين_كاثوليك وأرثوذوكس_ وفي حالة الهولوكوست 1945  قتلت الأمة الألمانية المسيحية اليهود، وفي  حالة إبادة سربرينيتسا قتل الصرب المسيحيون الأرثوذوكس المسلمين البوشناق.  وهذه الحالات الثلاثة هي حالات "إبادة عرقية" معترف بها دوليًّا.


مدخل النصب التذكاري لضحايا سريبرينيتسا