الخميس، أكتوبر 31، 2013

الصداقة والانتحال



يقول عبد الله بن المقفع في كتابه (الأدب الكبير) الذي ترجمه ترجمة حرة من الفارسية عن كتاب (ماقراجسنس) كما أخبرنا النديم في الفهرست

"إن سمعت من صاحبك كلامًا أو رأيت منه رأيًا يعجبك، فلا تنتحله تزيّنًا به عند الناس. واكتف من التزين بأن تجتني الصواب إذا سمعته، وتنسبه إلى صاحبه. 

واعلم أنّ انتحالك ذلك مسخطة لصاحبك، وأنّ فيه مع ذلك عارًا أوسخفًا. 

فإن بلغ بك ذلك أن تشير برأي الرجل وتتكلم بكلامه، وهو يسمع، جمعت مع الظلم قلة الحياء. وهذا من سوء الأدب الفاشي في النّاس. 

ومن تمام حسن الخلق والأدب في هذا الباب أن تسخو نفسك لأخيك بما انتحل من كلامك ورأيك، وتنسب إليه رأيه وكلامه، وتزينه مع ذلك ما استطعت" انتهى

 (63)
 تحقيق أحمد زكي. القاهرة، 1912

الأحد، أكتوبر 06، 2013

تأملات في رمز رابعة



ذاك الرجل الذي كتب (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية) وكتبًا أخرى في الأدب واللغة والسيمياء والفلسفة،  ثم ختم حياته بالنزول إلى الشارع، ليناهض "نظام مبارك" موقنًا من هشاشته وضعفه وحتمية سقوطه. ذاك الرجل _عبد الوهاب المسيري_ شُيع في جنازة متواضعة إلى مثواه الأخير في دمنهور من ميدان في شرق القاهرة يُدعى "رابعة العدوية".

لم يكن يوم  الثالث من يوليو  من عام 2008 يومًا كسائر الأيام، تمامًا كما هو يوم الثالث من يوليو من عام 2013. ففي الأول كان الوداع لرمز الصمود والمقاومة، حين تجمع أحبابه وأصحابه_وقد كنّا قلة_ حول تابوته باكيات وباكين أمام مسجد رابعة العدوية، وفي الثاني بدأ اعتصام مناهض لمغتصبي السلطة في مصر في ذات المكان الذي شُيّع منه أستاذنا.

 لم أتامل يومًا لمَ شُيع أستاذنا المسيري من رابعة العدوية، ثمّ وَجب لخمس سنوات أن تمرّ، حتى أفقه أنّه قد خُصّ في كل شيء، حتّى في المكان الذي تُوفي فيه،  ثم في المكان الذي  شيَّع منه؛ فمن حيث شُيع اتقدت شرارة اعتصام استمر في تلك البقعة الطاهرة ثمانية وأربعين يومًا. وقد رجوا من الله النصر أو الشهادة، فخصهم الواهب بالثانية، تمامًا كما خصّ أستاذنا بالموت وهو يقاوم مرضًا ينهش عظامه وآخرَ ينهش بلاده، وأحسبه عند الله شهيدًا.

وممّا كنت لا أفقهه كذلك من أستاذنا المسيري اهتمامه بالسيمياء _علم دراسة الرموز_ بجانب اهتمامه بالسياسة والفلسفة والأديان والتاريخ والأدب، حتى إنه خطّ كتابًا بعنوان "اللغة والمجاز" وقد وجب لتلك السنوات الخمس أن تنقضي كذلك، لأفهم لم اهتم بالرموز، والفضل لرمز/أسطورة رابعة !!

تقول الأسطورة، أنّ قومًا ما من شعب مصر اعتصموا في ميدان في شرق عاصمتها القاهرة، يُدعى رابعة العدوية، ثمّ ظلّوا فيه ثمانية وأربعين يومًا حسومًا. وقد كان سبب اعتصامهم أنّ طبقة العسكر قد أزاح رأسُها من ارتضته طبقة المدنيين رئيسًا لهم، عبر وسيلة لاختيار الحاكم تُدعى الانتخابات. وقد وصل هذا الرأس لمبتغاه بأن حرّك جموعًا من الناس عبر طرق غير مباشرة، منها استمالة جموع الغاضبين، والتحالف مع المتمردين، واسترضاء وجوه المخالفين، والاستمرار في إحداث ما ينغّص على الناس معاشهم، من غلاء السعر وانقطاع الكهرباء؛ ليستَعِرَّ الغضب والكره في الناس تجاه رئيسهم، فتنزل جموعٌ منهم إلى الشوارع.  حتّى إذا نزلوا، أفاض عليهم الرضا والأمان، ووعدهم أنه لن يحكمهم من يكرهونه، فعزل رئيسهم المنتخب من فوره.

وتواصل الأسطورة: أنّ جموعًا أخرى، منهم عُصبة الرئيس المنتخب، وسواد من الناس فهموا لؤم رأس العسكر، فلم تقرّه على ما فعل. وكانت وسيلة الاعتراض حينها هي الاعتصام في الشوراع حتى تحقيق المطالب! فاعتصم الناس في ميدان رابعة العدوية. وما كان من قادة المعتصمين إلاّ أن غالوا في مطالبهم، وكذا فعل المنقلبون على السلطة، ففشلت جهود الوساطات، حتى انقطعت سبل الحوار. فتعذر على جموع المعتصمين الوصول إلى مبتغاهم، بل صُمّت الآذان حتى ما عاد يسمعهم أحد. وحين تُصّم الآذان ويتعذر الكلام، ينبعث الرمز متخطيًّا عجز  الكلام والفعل، ومستبدلاً رمزيته بهما؛ فانبعث رمز رابعة في أواخر أيام الاعتصام.

وتضيف الأسطورة أنّ رأس العسكر  ضجر بالاعتصام، وطول مدته، وكذا ضجر كل من هادن وصالح ووافق المغتصبين. فعزم على أن تستتب له السلطة ويهنأ بالجلوس على كرسيها، فأمعن في المعتصمين القتل والجرح والاعتقال والتعذيب، حتّى بلغ مجموع من أذاههم عدة آلاف من الأفراد ومثله من الأسر.

و قد ودّ مغتصب السلطة من كل قلبه، وعمل بكل قوته على محو جريمة القتل التي أخرس بها مطالبيه بالحق، وحاول جاهدًا إحراز بطولات وهمية عبر الكذب والتضليل؛ ليصنع من نفسه صورة  "البطل" ويمحو  صورة "المجرم" . وهو إذ يعمل جاهدًا على محو جريمته  من وعي المعاصرين،  و على حذفها من تاريخ الأمة، يأتي الرمز المنبعث من عجز الكلام والفعل؛ ليحبط إرادته ويبطل فعله.  لقد قُضي الأمر، و تحمّل الرمزُ الحدثَ ليبقيه حيَّا في وعي الناس، وذاكرة الأمة، بل و يرفعه إلى درجة الأسطورة المحمّلة بالمعاني والدلالات.

وقد انبعث رمز رابعة في أصالة من عمق التجربة الإنسانية النضالية المحلية، موصولاً بعمقها التاريخي الممتد لقرون خلت، ثمّ متخطيًّا حواجز الجغرافيا واللغات والشعوب؛ ليصبح رمزًا نضاليًّا يرفعه ويشير به كل من يبغي الدعم والتضامن مع رابعة.

وإنّ هذا الرمز الأصيل، يحمل في عمقه وانتمائه التاريخي  شخصية رابعة، التي  قد رُفعت، هي الأخرى، إلى درجة الأسطورة في تاريخ التصوف والعشق الإلهي. ولدت رابعة في البصرة وعاشت في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، حيث توفيت عام 185 هـ . روى فريد الدين العطّار في "المناقبي" أن والد رابعة  كان فقيرًا جدًّا وكان له من البنات ثلاث، وحين رُزق بالرابعة، أسماها رابعة. ولم يكن يعلم والدها أنّ رابعة بناته ستختار الفقر اختيارًا زهدًا في الدنيا، وأنّها ستكون المرأة الزاهدة العابدة الخاشعة التي قادت تأسيس مذهب الحب الإلهي البحت في تاريخ الزهد والتصوف الإسلامي، وألهمت من بعدها رجالاً ونساء كثر في الطريق إلى الله. 

إنّ هذه الأصالة العربية الإسلامية التي ألهمت رمز رابعة، جاءت بعد فترة تاريخية من الانقطاع والبتر مع منابع ثقافتنا، حتى أصبحنا لا نستلهم تجارب تاريخنا؛ والذي إن أردناه، صوبنا وجهنا نحو أمة من أمم الشرق أو الغرب نستلهم منها تجاربها. ففي مجال الرمزية، لنتأمل "قبضة اليد" التي يتخذها رمزًا مجموعة من الشباب السياسي الناشط في مصر. ورمز قبضة اليد رمز مستلهم من تجارب أوروبا الشرقية التي تختلف عن منطقتنا اختلافًا جذريًّا تاريخًا ودينًا وثقافة. إن رمز رابعة، يبعث فينا الأمل في القدرة على استيعاب تاريخنا، من أجل استلهامه ثم تخطيه نحو مستقبل يتسق مع تاريخنا و تمليه علينا احتياجاتنا ومصالحنا.

وبالإضافة إلى الأصالة التاريخية التي يحملها رمز رابعة، فإن الرمز يتحدى حواجز  اختلاف اللغات، وحواجز حدود  السياسة، وحواجز الجغرافيا، ليوصل رسالة تعجز اللغة أن توصلها. إن الرمز_بعكس اللغة_ يستطيع أن يتخطى كل هذه الحواجز ، و لا يبذل جهدًا في الإقناع كما تبذله اللغة. إنه يطوي الزمن طيًّا فيوصل الرسالة في صمت وجلال وقوة. وقد رأينا كيف انتشر الرمز في أنحاء متعددة من المعمورة حين حمله وأشار به أناس متضامنون مع من وقع عليه الظلم والقتل في رابعة مصر، وهم من غير لسان أهلها ومن غير ثقافتها.

وإنّ هذا الانتشار الجغرافي ليقض مضجع المتغلب المغتصب! لقد كان هناك رابعة واحدة ذات حدود مكانية واضحة، وهناك من المعتصمين فيها من يمكن اجتثاثه والقضاء عليه. ولكن، بفضل الرمز، أصبحت قضية رابعة في كل مكان، لا حدود لها وهي خارجة عن السيطرة تمامًا.

والرمز يتمظهر بتمظهرات عدة، ومن الممكن إعادة إنتاجه في أشكال أخرى. إن الرمز من الممكن أن يتجسد في الملابس، في الطعام، في الصور واللوحات. إنه يجعلنا نعيش المرموز في كل وقت وبطرق متعددة.

والرمز يحمل إمكانية تأويله إلى عدد لا نهائي من المرات خلال الزمن، فأربعة رابعة من الممكن أن تؤول إلى القيم الأربعة لثورة يناير: عيش، حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية. ومن الممكن أن تؤول إلى تلك اليد التي بسطها صاحبها للقتل، "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني" فأحجم ذوو المقتول عن البسط " ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين" فأصبحت الكف المنبسطة ذات الأصابع المنبسطة، رمزًا يحمل البساطة والتلقائية والسلام. إذ كيف يمكن تصور عنف مع هذه الكف المنبسطة. ولذا فهي علامة على القاتل وتأبيدٌ لجريمته التي لن تسقط بمرور الزمن، وشهادة على الشهداء وعلى ذويهم ممّن يخافون الله رب العالمين.

وفي رمز رابعة كذلك دلالة واضحة على المرأة، فقد شهد اعتصام رابعة مشاركة فاعلة وواعية من المرأة المصرية. وحين شاركت المرأة في مساحة الفعل السياسي، شاركت معها الأسرة بكاملها.  والرمز كذلك يؤول إلى العبادة، إلى الاتصال بالله، بل إلى العشق الإلهي الذي بشرت به رابعة العدوية. ففي الميدان، صام المعتصمون والشهداء وصلّوا وقاموا ودعوا واتصلوا بالله سبحانه، ثم اشتاقوا للقائه وأحبوا لقاء الله فاجتبى الله منهم شهداء. وهكذا من الممكن أن يستمر التأويل ويعطي عددًا لا يمكن حصره من المعاني المنبعثة من الرمز.          

ستظل رابعة حية باقية، وستظل ملهمتنا وملهمة الثورة المصرية القادمة إن شاء الله....

وحين نمر عليك يا رابعة سنتذكر من قضوا فيك ومن علمونا الصمود....
هنا اعتصموا... هنا صلوا... هنا سجدوا...هنا صاموا...هنا قاموا...هنا فرحوا... وهنا بكوا ثمّ هنا قُتلوا... ثم ارتقوا ... "ولا تحسبن اللذين قتلوا في سبيل الله أمواتا"
المعتصمات في رابعة في 11 أغسطس 2013 قبل فضه بثلاثة أيام يرفعن شعار رابعة
نقلا عن فدوى خالد عبر صفحتها على الفيس بوك 

المسيري يُشيّع من رابعة ظهر 3 يوليو 2008
نقلا عن http://dostori.blogspot.com/search?q=%D8%AC%D9%86%D8%A7%D8%B2%D8%A9