حين
تنشأ في بيئة كل من فيها ينتمون إلى ديانة واحدة، فإنّك لا تستطيع أن تتصور أناسًا
آخرين يتعبدون إلى الله بدين مختلف، ولهم في الحياة رؤية مخالفة وفقًا لهذا الدين؛
هذا فضلاً عن أن تتصور كيف يمكن أن تعيش مع أولئك المختلفين، وتجد بينك وبينهم
مشتركًا. الحياة في مجتمع ذي دين واحد تبدو سهلة وبسيطة وانسيابية وذات بعد واحد.
هكذا كان تكويني النفسي حين نشأت في الإمارت العربية وقضيت فيها طفولتي وصباي. كلّ
الناس من حولي مسلمون، دور العبادة هي المساجد، الكلّ يقرأ القرآن ويصلّي الصلوات
الخمسة، ويصوم رمضان، كل النساء يرتدين غطاء للرأس في المدرسة سواء وافق ذلك
إرادتهن أم لا. لا يوجد قومٌ آخرون يقرؤون كتابًا غير القرآن، لا توجد صلاة
مختلفة، ولا يوجد صوم مختلف، لا يوجد أي تحديات من أي نوع على هذا الصعيد. لُقّنّا
أنّ الإسلام حق وما عداه باطل، وأن المسلمون هم المؤمنون، ومن عداهم كافرون،
ويترتب على هذا أنّنا فقط من نستحق دخول الجنّة ومصير الكافرين النّار.
لم تصمد
كل الدروس التلقينية التي تلقيتها في البيت والمدرسة والمسجد والمجتمع أمام الرغبة
في التعرف عن قرب على دين جماعة من أهل بلدي يوصفون بالأقلية، أقصد المسيحيين
الأقباط. لا جديد سأجنيه إن حاولت التعرف على دين آخر من خلال مصادر ديني. سيأتي
الجديد فقط حين أفتح عقلي وقلبي وأتعرف على دينهم من خلالهم، وأعايشهم أهم أسبوع في
عامهم، إنّه أسبوع الآلام. لم أتصور كيف كنت بضيق الأفق هذا أن عشت في القاهرة مع
المصريين المسيحيين خمسة عشر عامًا دون أن أعرف ما أسبوع الآلام ولمَ يحتفل به
جماعة من أهل بلدي؟
تابعت
قناة أغابي المسيحية كل يوم في أسبوع الآلام، وشاهدت كيف يصلون ويتعبدون، ويمارسون
معتقدهم في صلب المسيح _عليه السلام_ ويعيدون سرد حادثة الصلب ويعيشون داخلها لحظة
بلحظة. هذه المعايشة تتم من خلال قراءة ما حدث في كل يوم من أيام هذا الأسبوع في
الكتاب المقدس، والاستماع لتأملات وتفسيرات الأساقفة والقسيسين لتتابع هذه
السردية. كلّ الشعائر والصلوات تُقام في
الكنيسة وبرعاية رجال الدين. لاحظت وفهمت هذا المخزون التأملي الكبير الذي استدعته حادثة الصلب، يفيض على المسيحيين
معانٍ جليلة في أفهامهم ونظرتهم للكون وأخلاقهم وتعاملاتهم بل وتكوينهم النفسي.
يتحدث رجال الدين المسيحي عن الفداء وتكفير الخطايا، يتحدثون عن الحب والمحبة،
والحنان والترفق، عن الإيمان بالله والكفر بالشيطان ومقاومته وصدّه، يتحدثون عن
الابتلاءات وتكفير الذنوب والمعاصي، عن
الاطّراح بين يدي الله، والتوبة. إنّها معانٍ جليلة أجد لها نظيرًا في ديني! يستلهمون
إيمانهم بصلب المسيح لينشؤوا فنونا جميلة؛ رسمًا ونحتًا وتصويرًا وغناءً وعزفًا
وموسيقى وترانيمَ وتمثيلاً. أدركت حينها كيف تتشابه بعض الظواهر بين الأديان على
الرغم من اختلاف المصدر، وأدركت كذلك كيف يمكن أن تؤثر مفاهيمنا الدينية على
حياتنا الاجتماعية، ومن ثمّ على تعايشنا المشترك.
إنّ
التعايش في سلام يبدأ من فهم الآخر من حيث هو، لا من حيث أنا؛ من حيث يشرح نفسه
بناء على مصادره لا من حيث أحكم عليه من خلال مصادري؛ يبدأ حين أتخلّى عن مسلماتي وأقترب
منه ومن معتقداته بقلب وعقل مفتوح ونقي؛ يبدأ حين نكون على استعداد أن نعلم
أطفالنا في المدارس ماذا يعني الدين إجمالاً؟ وماذا تعني المسيحية وماذا يعني
الإسلام؟ كيف نصوم ويصومون؟ كيف نصلي ويصلون؟ كيف نؤمن ويؤمنون؟ هنا، يمكن أن
نتوقف لنقول إنّ التعايش الحقيقي بين أهل الأديان لا يمكن أن يتم دون أن نعيد
النظر في مقولتي الإيمان والكفر، كلّ دين بحسب مصادره المؤسّسة له؛ ثمّ في تجنيب
هاتين المقولتين مجالَ السياسة والحرب تمامًا.