الجمعة، يوليو 10، 2020

الطب النفسي: عجزٌ "الحديث" ولجوءٌ إلى "القديم"


بُنيِت دعوى العلم الحديث على اختزال الظواهر الإنسانية جميعها إلى "الطبيعة" وعلى الالتزام بالاستخبار التجريبي للواقع بحيث إنّ هذا الاستخبار وحده كافٍ في فهم وتفسير الظاهرة الإنسانية برمتها. وبالتالي، فلا شأن للعلم الحديث بـ "غير المرئي" الذي لا يمكن معاينته وقياسه؛ أي أنّ العلم الحديث ينكر الغيبيات والروحانيات وينكر أثرها على الواقع الإنساني المُشَاهَد كما هو معروف. وقد اشتدت هذه الدعوى في القرن التاسع عشر، وأضحى العلم الحديث أمل الإنسان الأوروبي الذي سعى لنشره في أنحاء المعمورة. يقول إرنست رينان (1823 – 1892)  الفيلسوف الفرنسي المؤمن إيمانًا عظيمًا بالعلم أنّ أيّ حقيقة يمكن الوصول إليها عن طريق اختبارها في مختبرين لا ثالث لهما: الطبيعة والتاريخ. ومن المقرر أن هذه الدعوى مستمرة إلى اليوم لولا بعض العلماء الذين خرجوا عليها بعد أن أدركوا عدم كفايتها.

            نشأ الطب النفسي الحديث ابنًا بارًا للعلم الحديث المعتمد على الطبيعة وحدها في فنّي التشخيص والعلاج. فالتشخيص لن يعدو أن يكون مرضًا عارضًا لنقص كيميائيٍ في المخ البشريّ، وهو أقلّ ما يمكن الاختزال إليه، والعلاج بالتالي لن يكون سوى تعويضٍ لنقص هذا المركب الكيميائي. فعلى سبيل المثال، إذا شُخّصَ المريض بالاكتئاب، فهذا يعني نقص "السيروتونين" والعلاج بالتالي سيصبح أدوية تشتمل على "السيروتونين" لتعوّض النقص الداخلي بمكمّل خارجي.

            لا يزال "الطب النفسي" يعمل في علاج الأمراض النفسية في الشرق والغرب على أساس نظرية العلم الطبيعي التي لا تتيح له أن ينظر لغير كيمياء المخ. ولكنّ طريقة العلاج الدوائي انتُقدِت وخولفت في أوروبا منذ منتصف القرن العشرين تقريبًا. وأدرك بعض أطباء النفس مبكرًا في أوروبا والولايات المتحدة إخفاق نموذج الطب الحديث في علاج الأمراض النفسية التي تزايدت بشدة بسبب الحروب وعملية التحديث المتسارعة التي لم تتوقف عن اجتياح العالم كله في القرن الماضي.

وانعطف بعض أطباء النفس الذين أدركوا هذا الاختزال الكبير والقصور العظيم في نموذج الطب الحديث إلى الفلسفات والأديان ليجدوا إجابات تعينهم على تطوير أساليب علاج "إنسانية." أي أنّهم عادوا إلى ما أنكره العلم الحديث ابتداءً.

من أبرز هؤلاء الطبيب النفسي الشهير "فيكتور فرانكل" (1905 – 1997) الذي نجا من أربعة معسكرات اعتقال نازية كتَبَ تجربتها في كتابه ذائع الصيت "الإنسان يبحث عن معنى." أصرّ فيكتور فرانكل أن أكبر محرّك للإنسان هو "الإرادة للمعنى" وليس "الإرادة للقوة" كما يقول نيتشه وليس "الإرادة للّذة" كما يقول فرويد. وأثناء محاولته مساعدة مرضاه ذوي الميول الانتحارية على إيجاد معنى في حياتهم، لينقذهم من الانتحار عاد فرانكل إلى "الفلسفة" وإلى "الدين" فبعد أن تحصّل على درجة الدكتوراه في الطب، درس لدرجة الدكتوراه في الفلسفة وقدم أطروحة أصدرها في كتاب بعنوان "الإنسان يبحث عن المعنى النهائي." وقد عاد فرانكل للمفاهيم الفلسفية ليؤسس اقترابه العلاجي على ثلاثة مفاهيم فلسفية: حرية الإرادة والإرادة للمعنى والمعنى في الحياة.

ومن هؤلاء الأطباء الذين خرجوا على الطب الحديث: الطبيب الأمريكي آرثر دايكمان (1929 – 2013) الذي تحدّى المقرّرات الطبية واعتماديتها على العلاج الدوائي للمرضى المُشَخصّين بالاكتئاب والذُّهان والفصام، ورامَ علاجًا "إنسانيًا" للمصابين بهذه الأمراض. عاد دايكمان إلى "الأديان" يلتمس الشفاء لمرضاه، فتتلمذ إلى مُعلّمٍ في الروحانية البوذية وإلى مُعلمٍ في التصوف الإسلامي. واستطاع دايكمان أن يبحث "حالات التأمل" المختلفة بحثًا علميًا. وأصدر كتابه بعنوان "النفس المُراقِبة: الروحانية والعلاج النفسي" يدرس فيه حالة تُعدّ "عبادة" في التصوف الإسلامي وممارسة لابد منها في الروحانية البوذية، ويدرس إمكانيتها في العلاج النفسي لأمراض عجز ت المركبات الكيميائية أن تعالجها.

أمّا الطبيب النفسي الأمريكي جيرالد ماي (1940 – 2005) فقد ربط بين الطب النفسي والدين وعلى الأخص الثيولوجيا المسيحية. وكان يعقد الورش العلاجية التي تجمع بين التأمل الديني المسيحي وعلم النفس في الولايات المتحدة. ومن أهم كتبه "الإرادة والروح."

ومنهم كذلك، الطبيب النفسي الأمريكي "جون كابات- زن" (1944- الآن) وهو أكثر من جمع بين الطب النفسي والبوذية. مارس التأمل البوذي على يد معلمين بوذيين ودرس "اليقظة" و"التأمل" درسًا علميًّا وأنشأ عيادات متخصصة لتخفيض التوتر والضغط العصبي عن طريق اليقظة والتأمل انتشرت في مستشفيات الولايات المتحدة في التسعينيات. ولكنّه أصرّ على رفض الإطار البوذي وأقرّ التأمل في إطار علمي بعد البحوث المكثفة التي أجراها لإدخال "اليقظة" و "التأمل" في أدبيات الطب النفسي الحديث.

            وقد استطاعت المعالجة النفسية "مارشا لينهان" (1943 – الآن) أن تعتمد على بحوث الأطباء الأربعة السابقين وتطور علاجًا مركبًا لأحد اضطرابات الشخصية التي عجز الطب الحديث أمام علاجها عجزًا بالغًا، وهو اضطراب الشخصية الحدية. بل أضافت مارشا لينهان لقائمة مراجع دليلها العلاجي مراجع في الأديان مباشرة، وليس فقط أبحاثًا علمية تدرس الظواهر الروحانية. فرجعت لكتاب "اليقظة" لكاتبه الراهب البوذي "هان" (1926 – الآن)  وكتاب "أغنية الطير" للقسّ الهندي أنثوني دي ميلو (1931 – 1987) وكلاهما كتابان دينيان.

وأخيرًا  نذكر الطبيب النفسي الأمريكي ديفيد هاوكنز (1927 – 2012) الذي بدأ طبيبًا نفسيًا وانتهى "معلمًا روحيًا" ومن أشهر منجزاته رسم "خريطة الوعي" التي توضح الحالات النفسية والعاطفية للإنسان ومقابلها الروحاني. ومن خلال أبحاثه المتتالية أنه لا يمكن اختزال الإنسان إلى الجسد فضلاً عن "الكيمياء" وأنّ محاولة الأدوية التعويض الخارجي للنقص الكيميائي الداخلي يحرم  المريض والإنسان من فرصة التجربة الروحية التي سيُعالَج من خلالها ويترقّى روحيًّا. وأكد أنّه لا يمكن للعلاج النفسي أن ينجح سوى بأخذ ثلاثية: الجسد، والعقل والروح في الاعتبار. غير أنّ الروح لا يمكن رؤيتها كما هو واضح، وإدخالها في العلاج النفسي الحديث يعني خرقًا جوهريًا لمسلمات العلم الحديث التي سادت دعوتها في القرن التاسع عشر وبشرّت بتقدم إنساني كبير الذي على ما يبدو ضلّ طريقه إلينا.

الاثنين، يوليو 06، 2020

آدابنا

آدابنا
الشيخ مصطفى عبد الرازق

يحزننا أن نقرأ في كثيرٍ من الصحف أخبارًا عن تعرض فتياننا في الميادين والطرق للمحصنات من النساء عل وجهٍ خلوّ من الذوق ومن حسن الأدب حتى لبلغ التبرم من السيدات فيما يروى أنهن خرجن من حلمهن ورفقهن إلى صفع أقفيةٍ جامدةٍ نشفق من مسّها على تلك الأكف الناعمات، وحتى لروي في بعض الجرائد أنّ طالبًا انقضّ على فتاة في العتبة الخضراء يقبلها فزحزحه الشرطة عنها ليقودوه إلى القسم.

يحزننا أن تكون مظاهر آدابنا على هذا المثال القبيح في جيلٍ ناهض نعتمد على وطنيته وأخلاقه في تحقيق آمالنا القومية الكبرى. ولئن قلنا مع القائلين إنّ الذين يتعرضون للسيدات في الطرق ليسوا إلاّ من السفلة الأدنياء فما هو بمانعنا أن نتألم لأنهم على كل حال من قومنا أولئك السفلة الأدنياء.

            نتحسر لسقوطهم في أنفسهم ونشفق من آثار عملهم السيء في تشويه سمعتنا الأخلاقية وفي الجناية على نفوس أطفالنا اللينة التي تتكرر عليها هذه المشاهد في غدوها ورواحها وما كان يصح لنا أن نلجأ إلى السلطات الحكومية في زجر أولئك الأشرار عن غيهم ووقاية آدابنا ونسائنا من أذاهم.

            وإنّ السلطة التي تسن الشرائع لإقفال المحال العمومية متى تمت الساعة العاشرة مساءً حرصًا على بعض الجنود أن يسرفوا في شرب الخمور وغشيان الملاهي لقادرة أن تسن من القوانين ما هو أقلّ كلفة وأضعف مظهرًا في الحركة الاجتماعية لحماية السيدات الكريمات من مضايقة السفهاء من الرجال. ولكننا نكره أن تكثر القوانين قيودًا لحرية الناس ونحن في هم من قيود كثيرة فما يكون لنا أن نتمنى لها مزيدًا.

            نكره أن يظهر  طابع الرهبة والخوف من العقاب حتى في آدابنا ولوددنا أن يفهم قومنا جمال الفضائل وقبح الرذائل فيرغب أبناؤنا في الاحتشام والأدب بمثل الذوق الذي يرغبهم في جمال الهندام ورشاقة الحركات. ولأبنائنا في هذا المعنى ذوق مصقول. نعلم علمًا ليس بالظن أن نظامنا الاجتماعي القاضي بحرمان المرأة والرجل من الاختلاط النافع في غير ريبة والتعارف في ميدان الحياة تعارف النظير إلى النظير، كل ذلك جعل صورة المرأة في خيال الرجل صورة متاع مادي، ولا يخلو من هذا الشوب ما يقوم في نفوس النساء من صور الرجال.

            ولهذا المعاني بلا ريب عمل في نقص آداب المعاملات عندنا بين الرجل والمرأة. يا حبذا لو قدرنا على تفهيم رجالنا أن المرأة إنسانة لها إحساس وعقل إلى جانب ما فيها من لطف و جمال واستطعنا تعليم المرأة أن الرجل شريك لها يتعاونان معًا في العمل على سعادة المجموع واحترام حرية الفرد.

            لو استطعنا هذا لارتقى ما في عقول الجنسين من معنى العلاقة بينهما في الحياة ولزالت حدة الشره الجسمي اللاعب بتلك العقول المريضة. ألا إنّ ذلك سعي المصلحين وهو – بإذن الله – سعي منجح ونحن نطلب المعونة عليه إلى كل غيور في هذا البلد على الحرية والأخلاق والآداب. و ننصح لفتياننا أن يرعوا كرامة أمتهم وكرامة السيدات، بل أن يرعوا كرامة أنفسهم وكرامة الحرية الشخصية التي نسعى إليها جميعًا بحسن الأدب في المجامع وملتقى الناس.

السفور: العدد السادس. السنة الأولى. يوم الجمعة 12 شعبان 1333 هـ الموافق 25 يونية سنة 1915 م