الأربعاء، ديسمبر 11، 2013

منتحل معاصر ساذج

نبهني أحد الأصدقاء أن هناك موقعًا إلكترونيًّا يُدعى (موقع التغيير) قد سرق تدوينتي "تأملات في رمز رابعة". وقد أغفل الموقع المذكور نسبة التدوينة/المقالة لي، وآثر عدم ذكر اسم مؤلف على الإطلاق، هذا على اعتبار أنّ الحروف من الممكن أن تنتظم لوحدها دون مؤلف لتكون جملاً مترابطة تؤدي إلى معاني واضحة. واكتفى بذكر أنّ المصدر في نهاية المقالة هو (التغيير)!!

ويبدو أن هذا الموقع قد وظّف أحدهم في وظيفة (منتحل وسارق) حيث يقوم شاغل هذه الوظيفة بمتابعة أبرز ما كتب على الإنترنت وصفحات التواصل الاجتماعي؛ ليسرق جهد الآخرين واجتهادهم لينشره على موقعه ويملأ محتواه. وموقع التغيير هذا موقع وهمي، يوهم متابعيه بكونه مصدرًا للمواد الإخبارية والصحفية والفكرية، وما هو إلا موقع تجميعي يعتمد على السرقة والانتحال وعلى النقل أحيانًا. وإن نهجه الخاطئ هذا يدل بوضوح أنّه ليس مؤسسة كما يحاول أن يوهم، بل ما هو إلاّ ثلّة من المنتفعين الذين لا يريدون سوى استمرار ما يتسبب فيه هذا الموقع من "سبوبة" يدرها عليهم بعض الناس.

ويبدو أنّ يوم العمل في  6 أكتوبر 2013  قد طال بصاحبنا عوضًا عن أن يحصل على أجازة! فقد نشرت تدوينة تأملات في رمز رابعة على مدونتي كتابات حرة في الساعة 10:52 صباحًا، و حين تنبه السارق نشرها في الساعة 07:57 مساءً بعنوان تأملات في رمز رابعة العدوية، ثم نقلت عنه مواقع سارقة أخرى، وهي: موقع كلمتي في الساعة 08:46 مساء، وموقع مصرس، وموقع  كوكتيل!  

لم ينتبه سارق التدوينة أنني أقوم بتحديثها باستمرار كلمّا عنّت لي فكرة أضفتها حتى أصبحت التدوينة اليوم مختلفة عن التدوينة الأصلية التي نشرتها في 6 أكتوبر.

وما لا يعرفه هذا الموقع أنّ طريقة سرقته غاية في السذاجة والسطحية والغفلة، فيمكن إذًا أن نضيف للقبه الوظيفي كلمة (مغفل) ليصبح (سارق ومنتحل ومغفل)؛ إذ ما هو إلاّ موقع على الشبكة العالمية يمكن بضغطة زر واحدة اكتشاف المؤلف الحقيقي.

مورس الانتحال منذ أقدم العصور وفي معظم الحضارات. وقد كان أسلافنا متساهلين في النقل عن بعضهم، حتى إنّ بعضهم ليسرق كتبًا كاملة من آخر دون ذكر اسمه. على سبيل المثال، كتب صاعد الأندلسي (420-462 ه) في الأندلس كتابًا يدعى (التعريف بطبقات الأمم)، يسرد فيه خبر أمم سالفة وأمم معاصرة له، ولابد أنّ مادة كتابه قد استقاها من كتب أخرى، لكنه لا يذكرها لنا. ثم يأتي القفطي (568-646 ه) ،الذي سكن القاهرة والقدس وحران، بعد صاعد بأكثر من مائة عام ليسرق كتابه هذا حرفيًّا دون أن يذكر صاعد ببنت شفة. ثمّ يضيف عليه ويخرجه باسم (تاريخ الحكماء).

 ما دافع السرقة؟ هل هو أمن الفضيحة! لا نعرف! من الملاحظ الفرق الزمني والجغرافي الكبير بين المؤلفين، فربما وصلت مخطوطة كتاب صاعد إلى القفطي واستحوذ عليها ونقلها إلى كتابه لينال شرف التأليف. ومن المرجح أنّ أهل العلم في عصره وبلاده لم تعرف صاعد. 

 يُفتضح أمر السرقة ولو بعد حين، فالآن يستطيع الباحث المعاصر أن يطلب كتاب صاعد بتحقيق حسين مؤنس أو غلامرضا، ويطلب كتاب القفطي بتحقيق يوليوس ليبرت، ويرى بوضوح ماذا سرق القفطي من صاعد.

لسنا بحاجة لانتظار كل هذه القرون! فيكفي أن ينبهك أحد الأصدقاء أو أن تستشير العم (جوجل) ليخبرك على الفور من سرقك!

الانتحال الآن يعد جريمة أكاديمة وصحفية، فإذا ثبت انتحال أحد الطلاب أو الأساتذة فمصيره الطرد من الجامعة، إن كانت جامعة تتبع المعايير الأكاديمية. وإن ثبت انتحال صحفي، فإنه يواجه عقوبات تصل إلى الفصل من عمله، بالإضافة إلى العقوبة الأشد وهي تشويه سمعته. ويحضرني هنا مثال (فريد زكريا) الإعلامي في شبكة السي إن إن وكاتب العمود في مجلة (تايم)، الذي انتحل فقرة واحدة من أحد المؤلفين. ومع أنه سارع بالاعتراف والاعتذار فإنّ هذا لم يعفه من عقوبة تعليق عمله لمدة شهر من جريدة (التايم).  راجع هذا الرابط

نصيحتي لموقع التغيير، إذا كنت تريد أن تكون منتحلاً معاصرًا محترفًا، فعليك اتبّاع وسائل أكثر دهاء واحترافية! ولا يغرنك هروبك من المقاضاة في مصر وغيرها من البلدان، فيكفيك تدهور سمعتك، وتحقير شأنك.


الثلاثاء، ديسمبر 10، 2013

أرسطو يبغض الربا


تميز أرسطوطاليس بمذهبه المتسق مع نفسه والمتمحور حول مفهومه ل (الطبيعة)؛ فالطبيعة هي دائمًا معيار أرسطوطاليس في مدح الأشياء أوذمّها، وفي قبول أخرى أورفضها.

في كتابه (السياسة) يحدثنا أرسطو طاليس عن (أبواب الرزق الطبيعي وغير الطبيعي) ومنهجه المعتاد هو وصف وحصر الآراء والأفعال السائدة في عصره في موضوع بحثه، وتقييمها ومن ثمّ ترجيح مذهبه الخاص.

يرى أرسطوطاليس أن فن الكسب على نوعين، أحدهما محمود وهو (فن الاقتصاد) والآخر مذموم وهو (فن التجارة). ومعيار الحكم أن أولهما طبيعي والثاني غير طبيعي. الأول يتوجه إلى الطبيعة مباشرة ليكتسب منها عبر فنون هي الرعاية والزراعة وصيد السمك وقنص الوحوش والطيور، وقد يبادل شيئًا بآخر. أمّا التجارة فقد اخترعت النقد للمبادلة، والنقد شيء غير طبيعي اخترعه البشر واصطلحوا عليه فليس له قيمة في ذاته في رأي أرسطو إلا بقدر اصطلاح النّاس، فإن أزالوا الاصطلاح لم يعد للنقد قيمة.

وبناء عليه، فقد رفض أرسطو الربا رفضًا تامًّا لأنه نقد نُمّي عن طريق النقد نفسه، فهو ينافي الطبيعة أعظم منافاة. يقول الفيلسوف: "...ولقد أبغضوه لأن ربحه من النقد نفسه، لا ممّا جُعل له النقد؛ إذ جعلت النقود للمبادلة. وأمّا الربا فهو ينمي النقد نفسه؛ ومن هذا الأمر نال اسمه. لأن المواليد شبيهة بوالديها. وما الربا إلا نقد النقد. ومن ثمّ فهو بين أصناف الغنى ما ينافي الطبيعة أعظم منافاة" (السياسة 1258 ب 5)

الأحد، نوفمبر 10، 2013

حسن التعامل مع المال من كليلة ودمنة


قال بيدبا الفيلسوف لدبشليم الملك: "كان بأرض دستاوند رجل شيخ له ثلاثة بنين. فلما بلغوا أشدهم أسرفوا في مال أبيهم ولم يكونوا احترفوا حرفة يكسبون بها لأنفسهم خيرا. فلامهم أبوهم ووعظهم على سوء فعلهم. وكان من قوله لهم يا بني إن صاحب الدنيا يطلب ثلاثة أمور لن يدركها إلا بأربعة أشياء. أما الثلاثة التي يطلب، فالسعة في الرزق، والمنزلة في الناس، والزاد للآخرة. وأما الأربعة التي يحتاج إليها في درك هذه الثلاثة فاكتساب المال من أحسن وجه يكون، ثم حسن القيام على ما اكتسب منه، ثم استثماره ثم إنفاقه فيما يصلح المعيشة ويرضي الأهل والإخوان فيعود  عليه نفعه في الآخرة. فمن ضيع شيئا من هذه الأحوال لم يدرك ما أراد من حاجته، لأنه إن لم يكتسب لم يكن له مال يعيش به، وإن هو كان ذا مال واكتساب ثم لم يحسن القيام عليه أوشك المال أن يفنى ويبقى معدما. وإن هو وضعه ولم يستثمره لم تمنعه قلة الإنفاق من سرعة الذهاب كالكحل الذي لا يؤخذ منه إلا غبار الميل ثم هو مع ذلك سريع فناؤه. وإن هو أنفقه في غير وجهه ووضعه في غير موضعه وأخطأ به مواضع استحقاقه صار بمنزلة الفقير الذي لا مال له. ثم لم يمنع ذلك أيضا ماله من التلف بالحوادث والعلل التي تجري عليه. كمحبس الماء الذي لا تزال المياه تنصب فيه فإن لم يكن له مخرج ومفاض ومتنفس يخرج منه الماء بقدر ما ينبغي خرب وسال ونزّ من نواح كثيرة وربما انبثق البثق العظيم فذهب الماء ضياعا.
كليلة ودمنة باب الأسد والثور. ص 105-106
كليلة ودمنة. نقحه وضبطه وعلق حواشيه خليل اليازجي. بيروت: مجلس معارف ولاية سوريا، 1888م

الثلاثاء، نوفمبر 05، 2013

ابن المقفع يعلمنا إدارة الوقت


يقول ابن المقفع "إذا تراكمت عليك اﻷعمال، فلا تلتمس الرًوح (أي الراحة) في مدافعتها يومًا بيوم والرًوغان منها. فإنّه ﻻ راحة لك إﻻ في إصدارها. وإنّ الصبر عليها هو الذي يخففها عنك، والضجر هو الذي يراكمها عليك"

ويواصل ابن المقفع "فتعهد من ذلك في نفسك خصلة قد رأيتها تعتري بعض أصحاب اﻷعمال. وذلك أن الرجل يكون في أمر من أمره فيَرِد عليه شغل آخر أو يأتيه شاغل من الناس يكره إتيانه، فيكدر ذلك بنفسه تكديرًا يفسد ما كان فيه وما ورد عليه، حتى ﻻ يُحكِم واحدًا منهما. فإذا ورد عليك مثل ذلك، فليكن معك رأيك وعقلك اللذان بهما تختار اﻷمور، ثم اختر أولى اﻷمرين بشغلك فاشتغل به حتى تفرغ منه. وﻻ يعظُمنّ عليك فوت ما فات وتأخير ما تأخر"
 (اﻷدب الكبير 105)

الخميس، أكتوبر 31، 2013

الصداقة والانتحال



يقول عبد الله بن المقفع في كتابه (الأدب الكبير) الذي ترجمه ترجمة حرة من الفارسية عن كتاب (ماقراجسنس) كما أخبرنا النديم في الفهرست

"إن سمعت من صاحبك كلامًا أو رأيت منه رأيًا يعجبك، فلا تنتحله تزيّنًا به عند الناس. واكتف من التزين بأن تجتني الصواب إذا سمعته، وتنسبه إلى صاحبه. 

واعلم أنّ انتحالك ذلك مسخطة لصاحبك، وأنّ فيه مع ذلك عارًا أوسخفًا. 

فإن بلغ بك ذلك أن تشير برأي الرجل وتتكلم بكلامه، وهو يسمع، جمعت مع الظلم قلة الحياء. وهذا من سوء الأدب الفاشي في النّاس. 

ومن تمام حسن الخلق والأدب في هذا الباب أن تسخو نفسك لأخيك بما انتحل من كلامك ورأيك، وتنسب إليه رأيه وكلامه، وتزينه مع ذلك ما استطعت" انتهى

 (63)
 تحقيق أحمد زكي. القاهرة، 1912

الأحد، أكتوبر 06، 2013

تأملات في رمز رابعة



ذاك الرجل الذي كتب (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية) وكتبًا أخرى في الأدب واللغة والسيمياء والفلسفة،  ثم ختم حياته بالنزول إلى الشارع، ليناهض "نظام مبارك" موقنًا من هشاشته وضعفه وحتمية سقوطه. ذاك الرجل _عبد الوهاب المسيري_ شُيع في جنازة متواضعة إلى مثواه الأخير في دمنهور من ميدان في شرق القاهرة يُدعى "رابعة العدوية".

لم يكن يوم  الثالث من يوليو  من عام 2008 يومًا كسائر الأيام، تمامًا كما هو يوم الثالث من يوليو من عام 2013. ففي الأول كان الوداع لرمز الصمود والمقاومة، حين تجمع أحبابه وأصحابه_وقد كنّا قلة_ حول تابوته باكيات وباكين أمام مسجد رابعة العدوية، وفي الثاني بدأ اعتصام مناهض لمغتصبي السلطة في مصر في ذات المكان الذي شُيّع منه أستاذنا.

 لم أتامل يومًا لمَ شُيع أستاذنا المسيري من رابعة العدوية، ثمّ وَجب لخمس سنوات أن تمرّ، حتى أفقه أنّه قد خُصّ في كل شيء، حتّى في المكان الذي تُوفي فيه،  ثم في المكان الذي  شيَّع منه؛ فمن حيث شُيع اتقدت شرارة اعتصام استمر في تلك البقعة الطاهرة ثمانية وأربعين يومًا. وقد رجوا من الله النصر أو الشهادة، فخصهم الواهب بالثانية، تمامًا كما خصّ أستاذنا بالموت وهو يقاوم مرضًا ينهش عظامه وآخرَ ينهش بلاده، وأحسبه عند الله شهيدًا.

وممّا كنت لا أفقهه كذلك من أستاذنا المسيري اهتمامه بالسيمياء _علم دراسة الرموز_ بجانب اهتمامه بالسياسة والفلسفة والأديان والتاريخ والأدب، حتى إنه خطّ كتابًا بعنوان "اللغة والمجاز" وقد وجب لتلك السنوات الخمس أن تنقضي كذلك، لأفهم لم اهتم بالرموز، والفضل لرمز/أسطورة رابعة !!

تقول الأسطورة، أنّ قومًا ما من شعب مصر اعتصموا في ميدان في شرق عاصمتها القاهرة، يُدعى رابعة العدوية، ثمّ ظلّوا فيه ثمانية وأربعين يومًا حسومًا. وقد كان سبب اعتصامهم أنّ طبقة العسكر قد أزاح رأسُها من ارتضته طبقة المدنيين رئيسًا لهم، عبر وسيلة لاختيار الحاكم تُدعى الانتخابات. وقد وصل هذا الرأس لمبتغاه بأن حرّك جموعًا من الناس عبر طرق غير مباشرة، منها استمالة جموع الغاضبين، والتحالف مع المتمردين، واسترضاء وجوه المخالفين، والاستمرار في إحداث ما ينغّص على الناس معاشهم، من غلاء السعر وانقطاع الكهرباء؛ ليستَعِرَّ الغضب والكره في الناس تجاه رئيسهم، فتنزل جموعٌ منهم إلى الشوارع.  حتّى إذا نزلوا، أفاض عليهم الرضا والأمان، ووعدهم أنه لن يحكمهم من يكرهونه، فعزل رئيسهم المنتخب من فوره.

وتواصل الأسطورة: أنّ جموعًا أخرى، منهم عُصبة الرئيس المنتخب، وسواد من الناس فهموا لؤم رأس العسكر، فلم تقرّه على ما فعل. وكانت وسيلة الاعتراض حينها هي الاعتصام في الشوراع حتى تحقيق المطالب! فاعتصم الناس في ميدان رابعة العدوية. وما كان من قادة المعتصمين إلاّ أن غالوا في مطالبهم، وكذا فعل المنقلبون على السلطة، ففشلت جهود الوساطات، حتى انقطعت سبل الحوار. فتعذر على جموع المعتصمين الوصول إلى مبتغاهم، بل صُمّت الآذان حتى ما عاد يسمعهم أحد. وحين تُصّم الآذان ويتعذر الكلام، ينبعث الرمز متخطيًّا عجز  الكلام والفعل، ومستبدلاً رمزيته بهما؛ فانبعث رمز رابعة في أواخر أيام الاعتصام.

وتضيف الأسطورة أنّ رأس العسكر  ضجر بالاعتصام، وطول مدته، وكذا ضجر كل من هادن وصالح ووافق المغتصبين. فعزم على أن تستتب له السلطة ويهنأ بالجلوس على كرسيها، فأمعن في المعتصمين القتل والجرح والاعتقال والتعذيب، حتّى بلغ مجموع من أذاههم عدة آلاف من الأفراد ومثله من الأسر.

و قد ودّ مغتصب السلطة من كل قلبه، وعمل بكل قوته على محو جريمة القتل التي أخرس بها مطالبيه بالحق، وحاول جاهدًا إحراز بطولات وهمية عبر الكذب والتضليل؛ ليصنع من نفسه صورة  "البطل" ويمحو  صورة "المجرم" . وهو إذ يعمل جاهدًا على محو جريمته  من وعي المعاصرين،  و على حذفها من تاريخ الأمة، يأتي الرمز المنبعث من عجز الكلام والفعل؛ ليحبط إرادته ويبطل فعله.  لقد قُضي الأمر، و تحمّل الرمزُ الحدثَ ليبقيه حيَّا في وعي الناس، وذاكرة الأمة، بل و يرفعه إلى درجة الأسطورة المحمّلة بالمعاني والدلالات.

وقد انبعث رمز رابعة في أصالة من عمق التجربة الإنسانية النضالية المحلية، موصولاً بعمقها التاريخي الممتد لقرون خلت، ثمّ متخطيًّا حواجز الجغرافيا واللغات والشعوب؛ ليصبح رمزًا نضاليًّا يرفعه ويشير به كل من يبغي الدعم والتضامن مع رابعة.

وإنّ هذا الرمز الأصيل، يحمل في عمقه وانتمائه التاريخي  شخصية رابعة، التي  قد رُفعت، هي الأخرى، إلى درجة الأسطورة في تاريخ التصوف والعشق الإلهي. ولدت رابعة في البصرة وعاشت في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، حيث توفيت عام 185 هـ . روى فريد الدين العطّار في "المناقبي" أن والد رابعة  كان فقيرًا جدًّا وكان له من البنات ثلاث، وحين رُزق بالرابعة، أسماها رابعة. ولم يكن يعلم والدها أنّ رابعة بناته ستختار الفقر اختيارًا زهدًا في الدنيا، وأنّها ستكون المرأة الزاهدة العابدة الخاشعة التي قادت تأسيس مذهب الحب الإلهي البحت في تاريخ الزهد والتصوف الإسلامي، وألهمت من بعدها رجالاً ونساء كثر في الطريق إلى الله. 

إنّ هذه الأصالة العربية الإسلامية التي ألهمت رمز رابعة، جاءت بعد فترة تاريخية من الانقطاع والبتر مع منابع ثقافتنا، حتى أصبحنا لا نستلهم تجارب تاريخنا؛ والذي إن أردناه، صوبنا وجهنا نحو أمة من أمم الشرق أو الغرب نستلهم منها تجاربها. ففي مجال الرمزية، لنتأمل "قبضة اليد" التي يتخذها رمزًا مجموعة من الشباب السياسي الناشط في مصر. ورمز قبضة اليد رمز مستلهم من تجارب أوروبا الشرقية التي تختلف عن منطقتنا اختلافًا جذريًّا تاريخًا ودينًا وثقافة. إن رمز رابعة، يبعث فينا الأمل في القدرة على استيعاب تاريخنا، من أجل استلهامه ثم تخطيه نحو مستقبل يتسق مع تاريخنا و تمليه علينا احتياجاتنا ومصالحنا.

وبالإضافة إلى الأصالة التاريخية التي يحملها رمز رابعة، فإن الرمز يتحدى حواجز  اختلاف اللغات، وحواجز حدود  السياسة، وحواجز الجغرافيا، ليوصل رسالة تعجز اللغة أن توصلها. إن الرمز_بعكس اللغة_ يستطيع أن يتخطى كل هذه الحواجز ، و لا يبذل جهدًا في الإقناع كما تبذله اللغة. إنه يطوي الزمن طيًّا فيوصل الرسالة في صمت وجلال وقوة. وقد رأينا كيف انتشر الرمز في أنحاء متعددة من المعمورة حين حمله وأشار به أناس متضامنون مع من وقع عليه الظلم والقتل في رابعة مصر، وهم من غير لسان أهلها ومن غير ثقافتها.

وإنّ هذا الانتشار الجغرافي ليقض مضجع المتغلب المغتصب! لقد كان هناك رابعة واحدة ذات حدود مكانية واضحة، وهناك من المعتصمين فيها من يمكن اجتثاثه والقضاء عليه. ولكن، بفضل الرمز، أصبحت قضية رابعة في كل مكان، لا حدود لها وهي خارجة عن السيطرة تمامًا.

والرمز يتمظهر بتمظهرات عدة، ومن الممكن إعادة إنتاجه في أشكال أخرى. إن الرمز من الممكن أن يتجسد في الملابس، في الطعام، في الصور واللوحات. إنه يجعلنا نعيش المرموز في كل وقت وبطرق متعددة.

والرمز يحمل إمكانية تأويله إلى عدد لا نهائي من المرات خلال الزمن، فأربعة رابعة من الممكن أن تؤول إلى القيم الأربعة لثورة يناير: عيش، حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية. ومن الممكن أن تؤول إلى تلك اليد التي بسطها صاحبها للقتل، "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني" فأحجم ذوو المقتول عن البسط " ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين" فأصبحت الكف المنبسطة ذات الأصابع المنبسطة، رمزًا يحمل البساطة والتلقائية والسلام. إذ كيف يمكن تصور عنف مع هذه الكف المنبسطة. ولذا فهي علامة على القاتل وتأبيدٌ لجريمته التي لن تسقط بمرور الزمن، وشهادة على الشهداء وعلى ذويهم ممّن يخافون الله رب العالمين.

وفي رمز رابعة كذلك دلالة واضحة على المرأة، فقد شهد اعتصام رابعة مشاركة فاعلة وواعية من المرأة المصرية. وحين شاركت المرأة في مساحة الفعل السياسي، شاركت معها الأسرة بكاملها.  والرمز كذلك يؤول إلى العبادة، إلى الاتصال بالله، بل إلى العشق الإلهي الذي بشرت به رابعة العدوية. ففي الميدان، صام المعتصمون والشهداء وصلّوا وقاموا ودعوا واتصلوا بالله سبحانه، ثم اشتاقوا للقائه وأحبوا لقاء الله فاجتبى الله منهم شهداء. وهكذا من الممكن أن يستمر التأويل ويعطي عددًا لا يمكن حصره من المعاني المنبعثة من الرمز.          

ستظل رابعة حية باقية، وستظل ملهمتنا وملهمة الثورة المصرية القادمة إن شاء الله....

وحين نمر عليك يا رابعة سنتذكر من قضوا فيك ومن علمونا الصمود....
هنا اعتصموا... هنا صلوا... هنا سجدوا...هنا صاموا...هنا قاموا...هنا فرحوا... وهنا بكوا ثمّ هنا قُتلوا... ثم ارتقوا ... "ولا تحسبن اللذين قتلوا في سبيل الله أمواتا"
المعتصمات في رابعة في 11 أغسطس 2013 قبل فضه بثلاثة أيام يرفعن شعار رابعة
نقلا عن فدوى خالد عبر صفحتها على الفيس بوك 

المسيري يُشيّع من رابعة ظهر 3 يوليو 2008
نقلا عن http://dostori.blogspot.com/search?q=%D8%AC%D9%86%D8%A7%D8%B2%D8%A9




الأربعاء، سبتمبر 18، 2013

الفقير الطبيعي والغني الطبيعي

نقل أبو حيان التوحيدي عن فيلسوف لم يحدد اسمه في كتابه "اﻹمتاع والمؤانسة" هذه الحكمة: 

"ما أكثر من ظنّ أنّ الفقير هو الذي ﻻ يملك شيئًا كثيرًا وهذا فقير من جهة العرَض، فأمّا الفقير الطبيعي فالذي شهواته كثيرة وإن كان كثير المال؛ كما أن الغنيَ الطبيعي ﻻ يحتاج إلى شيء وإن كان قليل المال، أي الذي ملك نفسه وقمع شهواته وأخمد لهب إرادته، وقد ظنّ قوم أنّ الذين منعوا من الشهوات، ورضوا بالزهد في اللذات، خانوا الناس وحالوا بينهم وبين حظوظهم، وحرموهم ما هو لهم، وصدّوهم عن محبوباتهم؛ وهذا ظن خطأ..." 

التوحيدي. اﻹمتاع والمؤانسة. الجزء الثاني. طبعة القاهرة، دار التأليف والترجمة والنشر ص 91

الخميس، أغسطس 22، 2013

هوامش إنسانية على متون المجازر الوحشية








259 جثمان اصطفت على السجاجيد الحمراء في مسجد الإيمان في هذا اليوم قبل أسبوع. خرج منها 216 جثمان لإكرامه على صيحات الله أكبر المختلطة بنحيب الرجال، وآهات النساء... 

 بكاء النساء المكلومات يقتلع القلوب، وزغاريد أخريات يبعث على الجلال مع تتالي جنائز الشهداء ...
في هذا المشهد، لم يكن هناك سوى طفل واحد بين الخامسة والسابعة من العمر .. في معظم الأوقات هو نائم مطمئنًّا لرعاية أحد المتطوعين لحراسة المسجد وإكرام الشهداء... ساقتني قدماي إلى مكان جلوسه حين أردت المساعدة في توثيق أسماء بعض المفقودين. فسألني من يعتني بأمره أن الطفل يريد أن يقضي حاجته... أخذته على الفور  أحاول أن أجد طريقًا بين جثامين الشهداء وأنا لا أدري إن كنّا سنمر أو نصطدم في جثمان أبيه أو امه أو كليهما.... كان الخروج بالطفل من مسجد الإيمان  أشبه بالمغامرة  ...

نجحت أخيرا في اصطحاب الطفل إلى مصلّى السيدات، ولعدم خبرتي بالأطفال فقد طلبت المساعدة من سيدة كبيرة ، كانت ممن نجوا من مجزرة رابعة> أخبرتها أنه ليس ابني، بل هو طفل تائه كان في الاعتصام ثم نجاه الله وأتى به إلى مسجد الإيمان...
ما اسمك يا حبيبي؟
مصطفى
ما اسم أبيك؟
أبو مصطفى
طيب ما اسم أمك؟
أم مصطفى
طيب أين والدك؟
وداني الجامع (رابعة) وبعدين مشي

لم يذكر مصطفى أي شيء! وبدا شاحب اللون، هاربًا إلى النوم، صامتًا لا يتكلم.

تركت الطفل مع أم عبد الله، وقد انعقدت اللحمة بينهما فورًا،  ثم خرجت هائمة على وجهي علني أجد محلّا لملابس الأطفال أعوضه عن ملابسه التي أتلفها فوجدت جميع المحال القريبة مغلقة...

عدت إلى المسجد ولا يزال أهالي الشهداء يودعون شهيدًا تلو الآخر، ولا زالت الصيحات والآهات والزغاريد مختلطة ...
لم أكن أدري كيف أعتني بمصطفى  ... وصلت فإذابأم عبد الله قد عرفت شابتين متطوعتين لرعاية من نجوا من الاعتصام وتبرعت إحداهن بكسوة لمصطفى... لم تمر سيدة على مصطفى إلاّ وسألت عنه وعن قصته وعطفت عليه، منهن سيدة كبيرة أخرى ذات خبرة في رعاية الأطفال...

 نجحت الحاجة تهاني في استنطاق الطفل الصامت غير أنه لم يذكر شيئًا، ولكنه استجاب لها فطعم وشرب وضحك... وحين كانت تلبسه إحدى أمهاته وجدت مكتوبا على ذراعه باللون الأحمر: "محمد فريد فرج" !!
وفي خلال ساعة واحدة، أصبح لمصطفى ثلاثة أمهات، وجدتان،  والعديد من الخالات والعمّات...
التقطنا له صورة ورفعناها على فيس بوك علّنا نصل لأبيه او أمّه إن لم يكونا من المسجّين على سجاد مسجد الإيمان ...

تركت مصطفى في السابعة مساء في مصلى السيدات آمنة عليه  في صحبة إحدى جدتيه وإحدى أمهاته، وفي العاشرة مساء حين اقتحمت الشرطة المسجد، أخذته أم عبد الله وخرجت فأبى مصطفى وبكى قائلا: "أريد أن أحمي المسجد من الأشرار " ... أخرجت الشرطة مصطفى وجدته الجديدة أم عبد الله هائمين  على وجهيهما في حظر التجوال حتى استقبلهما أحد الكرماء من أهالي الحي...

حصلت صورة مصطفى على أكثر من 2600 مشاركة على الفيس بوك، ولمدة أربع ساعات متصلة لم يتوقف هاتفي عن الرنين.  تلقيت عشرات الاتصالات، منها اتصالات دولية من السعودية وألمانيا وأمريكا... بالطبع لم يكن هناك سوى اتصال واحد يخص ذوي الطفل، عندما اتصلت صديقة لعمته تقول: إنّ الطفل اسمه محمد، وقد انتابها الهلع على الطفل ولم تصدق أنه ما زال حيًّا...

باقي الاتصالات، كانت بين مطمئن على الطفل وبين عارض لإيواء الطفل.... منهن سيدة موسرة عرضت الكفالة !
وفي صباح الجمعة، كان مصطفى في حضن والديه من جديد ... في أقل من 12 ساعة من لحظة نشر صورته ... اطمأننت على مصطفى وتركت نفسي مع إحساس خجول بالتفاؤل ... أنه على الرغم من قسوة المجازر  التي نتعرض لها  وعلى الرغم من توحش بعض الناس من كارهي الإخوان متشفيّا من قتل إخوته ، إلا أنّ مجتمعنا مليء بالطاقات الكامنة للتضامن والتعاضد والتكافل ... لقد تلقى مصطفى عروضًا سخية بالكفالة وأغرقته أمهاته وجداته البديلات بالحنان والعطف ...

إننا أحوج ما نكون إلى إظهار هذه الطاقات الكامنة وتفعيلها وتنظيمها... فالدعم اللحظي الذي يقدم لعوائل ضحايا مجازر النظام يجب أن يستمر ويعم أطفال الشهداء والمصابين والمفقودين والمعتقلين وذويهم...

 لسنا في رفاهية انتظار عدالة مؤجلة ولسنا في حاجة إلى تسول الدولة المعادية لشعبها لتعطي تعويضات هزيلة على مضض، بل لدينا ما يكفينا ويغنينا... نحتاج فقط إلى الشحذ و التعاون والتآزر ....

رحم الله الشهداء وشافى الجرحى وفك أسر المحبوسين وأعاد المفقودين و ألهم ذويهم الصبر وأنبت أبناءهم نباتًا حسنًا ....

الاثنين، أغسطس 19، 2013

30 يونيو والمحاكاة السورية

ليس خافيًا أنّ لجوء السيسي لخطاب الإرهاب، وإعلانه لكيان الدولة فوق الوطن والبشر، وإحكامه السيطرة على جميع مؤسسات الدولة، كما قال في خطابة الطالب للتفويض: (المصالحة هي المصالحة بين مؤسسات الدولة: الأزهر، والكنيسة، والقضاء والشرطة، والجيش والإعلام( وجعلها تعمل في تناغم واحد على وقع سيمفونية الحرب على الإرهاب، في تواطؤ محكم على الكذب، وتصديقه قبل تصديره...ليس خافيًا أنّ هذا الخطاب هو محاكاة لخطاب النظام السوري.

فقد حول خطاب النظام السوري سورية كلها إلى ساحة حرب، وفرّغها من سكانها بتسويغ خطاب الإرهاب. وعلى مدى عامين يقتل النظام السوري السوريين، ويترك الثغرات للنشطاء لنقل وقائع إجرامه للإعلام العربي والأجنبي، بينما يقوم هو بإخراج مشهد آخر كاذب عبر إعلامه وإعلام حلفائه، ثم لا يهتز ولا يتقهقر لمعرفة العالم لحقيقته، بل يمعن في القتل والتهجير والتطهير. ومن يتابع الإخبارية السورية والميادين يدرك مدى ما تعلمه الإعلام المصري والرسمي والخاص الموالي من خبرة إعلام النظام السوري الغاشم الكاذب.

ومن يتابع كيف تم طمس ثورة 25 يناير وإخراج المسرحية الهزلية لما أسموه ثورة 30 يونيو، يدرك كيف تعلم النظام المصري المضاد لثورة 25 يناير من النظام السوري عبر إمكانية خلق تحالفات إقليمية ودولية جديدة تتشابه مع تحالفات النظام السوري التي من الممكن أن تدعمه وتضمن بقاءه. لقد شكر السيسي في خطابه السعودية والبحرين ولكويت والإمارات والأردن. كما أبدت روسيا والصين استعدادها لملء الفراغ التسليحي إذا امتنعت أوروبا وأمريكا عن تسليح مصر.

إذا فليخرج الرافضون لحكمنا ولدولتنا المقدسة في أسبوع الرحيل، وما تلاه من أسابيع في انتظار أبدي للحظة العودة، وفي كل لحظة ستعيشون مرثية جديدة ليس عبر سقوط قتيل هنا وهناك، ولكن عبر مجازر جماعية لا نمانع في نقلها عبر الإعلام الأجنبي، والتواصل الاجتماعي. ففي النهاية، نحن نحكم عامّة المصريين الذين لم يتعلموا التفكير النقدي، بل حتى التفكير للحظة، فمن السهل إذًا أن نغسل لهم أدمغتهم عبر خطاب ترويعي تطميني في الوقت نفسه...

فهمت الآن المقولة التي درسناها في تاريخ المنطقة حتى نهاية الخلافة العثمانية أنّ "أمن مصر في الشام وأمن الشام في مصر" ولكن أفهمها الآن ليس بمواجهة العدو الخارجي كما كان الحال في التاريخ الوسيط، أي التتار والمغول، ولا التاريخ الحديث، أي الاستعمار وإسرائيل. بل أفهمها على مستوى ثورات الشعوب ضد أنظمتها في حالة لا هي بالسلم ولا هي بالحرب، وأدركت كيف ترسم الثورة السورية خارطة جديدة للمنطقة العربية، وكيف قصر نظام الإخوان المعزول عن نصرة الثورة السورية كما يجب ليس فقط من منطلق أخلاقي بل من منطلق أمني واستراتيجي.

رحم الله الشهداء وأعان الأحياء على قابل الحياة... 

الجمعة، أغسطس 16، 2013

شهادتي عن مسجد الإيمان



عند الساعة الرابعة فجرا 15 أغسطس تم نقل 259 جثة من رابعة إلى مسجد الإيمان (ما بين معروف ومجهول ومتفحم وغير متفحم) وهذا بناء على إحصاء أحد الأطباء الذين شألتهم في المسجد.  وبعد صلاة الظهر مباشرة عددت بنفسي 214 جثمان، أي أنه قد أُخلي 45 جثمان للدفن ما بين الفجر والظهر...وعند أذان المغرب (حين غادرته) كان في المسجد ما يقرب من 40 جثمان، أي أنه قد أخلي حوالي 175 جثمان من الظهر وحتى المغرب.  

وحين اقتحمت الشرطة الجامع منذ ساعتين، فبالتأكيد كان في الجامع أقل من 40 جثمان...

طيل النهار، كان الإعلام الأجنبي موجودًا بكثافة ... شاهدت الدويتشة فيله الألمانية وأ. ف. ب. الفرنسية ووكالة الأنباء اليابانية بالإضافة إلى الأطباء والحقوقيين... كان كل من هناك يحاول التوثيق قدر جهده.


الاثنين، أغسطس 12، 2013

صور من سريبرينيتسا

زرت سريبرينيتسا للمرة الأولى في يوليو 2013، أي بعد مرور ثمانية عشر عامًا على الإبادة العرقية التي حدثت للمسلمين فيها على أيدي الصرب. وخلال الأعوام الثمانية عشرة بذل البوسنيون جهودًا كبيرة في الكشف عن المجازر الجماعية التي قُبر فيها الضحايا، ثم التعرف على هوية رفات الضحايا وإعادة دفنهم من جديد من أجل التكريم والذكرى. وفي هذا العام 2013 تم التعرف على 409 جثمان وتم الإعلان عن أسمائهم ودفنهم من جديد. 

مدخل المركز التذكاري لضحايا الإبادة العرقية في سريبرينيتسا يوليو 1995
shot taken by Naida Zemzem

مدخل المركز التذكاري لضحايا سريبرينيتسا 1995
القبة الخضراء مسجد يتوسط المركز والمدفن
يوليو 2013





8372 هو عدد ضحايا سريبرينيتسا يوليو 1995 والذين قتلوا على يد القوات الصربية ودفنوا في مقابر جماعية، ثم أعيد اكتشاف هذه المقابر بعد اتفاقية السلام ومن ثَمّ جرى التعرف على الجثامين وتمّ إعادة دفنها
الصورة في يوليو 2013
taken by Naida Zemzem
مدافن ضحايا سريبرينيتسا يوليو 1995
الصورة في يوليو 2013
taken by Naida Zemzem

قبر يُحفر استعدادا لدفن جثمان ضحية من الضحايا  تم تحديد هويته خلال العام المنصرم  وذلك بعد مرور 18 عام على الإبادة
الصورة في يوليو 2013
taken by Naida Zemzem 

الجمعة، يوليو 12، 2013

ما الذي جاء بك إلى سريبرينيتسا؟


"ما الذي جاء بك إلى هنا؟" هكذا سألتني أستاذة الخدمة الاجتماعية في جامعة دينفر "آن بيتريلا"  بدا لي السؤال في البداية غريبًا! إذ كيف تسألني زميلةٌ مشاركةٌ في "جامعة سريبرينيتسا الصيفية" عن سبب مشاركتي في برنامج صيفي لدراسة إبادة سريبرينيتسا، بعد أن بذلت جهدًا في طلب التقديم، وتضخمت مشاقًّا في الحصول على الفيزا، وقطعت البحر المتوسط إلى إستانبول ثمّ إلى سراييفو ثم إلى سريبرينيتسا!! تذكّرت لوهلة أنّني أمام أستاذة أمريكية تريد تسويغًا مقبولاً لأيّ فعلٍ يُفعل ، إذ كيف للأمريكي أن يستوعب لمَ يبذل الجهد والوقت والاهتمام لدراسة جزء صغير من تاريخ هذا الجزء من العالم دون تسويغ عقلاني مقبول؟

حينما حدث الاعتداء على البوسنة في عام 1992، كنت في الصف الأول الإعدادي في مدرسة المريجب الإعدادية  في مدينة العين في دولة الإمارت. وكالعادة المتبعة في مدارس الإمارت، كانت الأنشطة المدرسية متجهة دائمًا للارتباط بحدث ما جللٍ يحدث في "الأمة الإسلامية" وكان للبوسنة النصيب الأكبر في ذاكرتي وتكويني النفسي والعاطفي الإسلامي في مرحلة المراهقة؛ إذا استمر الاعتداء على البوسنة ثلاث سنوات 1992_1995 وهي الفترة التي كنت أدرس فيها في المدرسة الإعدادية. كان نشيد "سراييفو" هو النشيد المفضل لدى إدارة النشاط المدرسي لبثّه عبر مكبرات الصوت في الفسحة المدرسية _وهي الفسحة التي من المفترض للتلميذات أن يمرحن  فيها إلاّ أنه ولسبب ما كنا نقضي الفسحة ثمّ نعود إلى الفصول على وقع هذا النشيد_  والذي مطلعه:

نناديكم وقد كَثُر النحيب نناديكم ولكن من يجيب
نناديكم وآهات الثكالى تحدثكم بما اقترف الصليب
سراييفو سراييفو

وحين كانت الطائرة تهبط بي في مطار سراييفو، ظلّ هذا النشيد يتردد على مسامعي، واستحضرت ذاكرتي كلّ مرات البكاء والعزوف عن الراحة في الفسحة المدرسية بسبب هذا النشيد الذي ظلّ هو النشيد الأساسي في الفسحة مدة ثلاث سنوات_وربما كان عدد مرات سماعه تفوق عدد مرات سماع النشيد الوطني لدولة الإمارات_، ثمّ لعبي لدور "الفدائي"  في مسرحيات مدرسية عن البوسنة، كان يتلوها دائمًا معارض منتوجات يدوية يذهب ريعها_والذي لم يكن قليلا_ إلى البوسنة. وحين عاينت البوسنة الجميلة، وبدأ البرنامج،  بدأت هذه الذاكرة الشخصية المراهقة تتراجع إلى الوراء، لأبدأ في معايشة تجارب حية لأهل هذه البلاد أثناء الحرب، ثمّ قصص الناجين من الحرب ثم آثار الحرب التي مازالت البوسنة وناسُها يعيشونها إلى اليوم.

حين بدأت المشاركة في البرنامج، توقعت _بسبب هذه الذاكرة المشحونة عاطفيًّا_ أن أجد ذكرًا ما للعرب أو المسلمين أو الأمّة الإسلامية، عن دورهم مثلاً في الدعم أو التضامن! ولكنّي وجدت عوضًا عنه نكتة: "حين حدث الاعتداء على البوسنة، تفاجأ العرب أن هناك مسلمين أغلبية يعيشون في هذا الجزء من أوروبا، وسارعت دول الخليج بإرسال "التمر" للاجئين والمنكوبين، لم يعرف البوسنيون التمر من قبل، فقالوا: ما هذا ؟ إنّه من الممكن أن ننتج منه خمرًا" ولمن لم يزر البوسنة،  فإنّ المسلمين في البوسنة متصالحون جدًا مع الخمر ولا يرون فيها بأسًا، إذ إنّ الإسلام للأغلبية المسلمة ثقافة وليس تدينًا. وفهمت حينها، كيف يجري توظيف مفهوم "الأمّة" توظيفًا عاطفيًّا فقط لإشباع الذات العربية المسلمة الضعيفة، وأنّه في الحقيقة لا أثر لهذا المفهوم _البتة_ في أرض الواقع، على الأقل في حالة حرب البوسنة 1992-1995.

بالتأكيد، لم يكن هذا هو الدافع الذي أفصحت عنه لزميلتي الأمريكية، وهو وإن كان دافعًا باعثًا، فإنّ الدافع المحرّك كان أمرًا آخر وهو الذي أفصحت عنه لمحدّثتي. قلت لها إنّ  متابعتي للثورة السورية، جعلتني أقدّر أنّ القتل الذي يحدث فيها هو قتل مخطط له  منذ زمن، ما جعلني أرجح أنّ عملية القتل فيها ممنهجة. وهذه المتابعة نفسها هي التي جعلت أقرأ عن (الإبادة الأرمنية) وهي الإبادة التي حدثت بعض وقائعها على الأراضي السورية. اقتادني هذا التفكير إلى الرغبة المستقبلية في دراسة نمط الإبادات وكيفية توظيف الدين فيه، ودراسة كيف أنّ فعل الإبادة كامن في كل أمّة بصرف النظر عن دينها. ففي حالة الإبادة الأرمنية 1915، قتلت الأمة التركية العثمانية الإسلامية الأرمن المسيحيين_كاثوليك وأرثوذوكس_ وفي حالة الهولوكوست 1945  قتلت الأمة الألمانية المسيحية اليهود، وفي  حالة إبادة سربرينيتسا قتل الصرب المسيحيون الأرثوذوكس المسلمين البوشناق.  وهذه الحالات الثلاثة هي حالات "إبادة عرقية" معترف بها دوليًّا.


مدخل النصب التذكاري لضحايا سريبرينيتسا




السبت، مايو 11، 2013

خبرة مسلمة مع أسبوع الآلام


                                                                                                                                                                                                                                            
                حين تنشأ في بيئة كل من فيها ينتمون إلى ديانة واحدة، فإنّك لا تستطيع أن تتصور أناسًا آخرين يتعبدون إلى الله بدين مختلف، ولهم في الحياة رؤية مخالفة وفقًا لهذا الدين؛ هذا فضلاً عن أن تتصور كيف يمكن أن تعيش مع أولئك المختلفين، وتجد بينك وبينهم مشتركًا. الحياة في مجتمع ذي دين واحد تبدو سهلة وبسيطة وانسيابية وذات بعد واحد. هكذا كان تكويني النفسي حين نشأت في الإمارت العربية وقضيت فيها طفولتي وصباي. كلّ الناس من حولي مسلمون، دور العبادة هي المساجد، الكلّ يقرأ القرآن ويصلّي الصلوات الخمسة، ويصوم رمضان، كل النساء يرتدين غطاء للرأس في المدرسة سواء وافق ذلك إرادتهن أم لا. لا يوجد قومٌ آخرون يقرؤون كتابًا غير القرآن، لا توجد صلاة مختلفة، ولا يوجد صوم مختلف، لا يوجد أي تحديات من أي نوع على هذا الصعيد. لُقّنّا أنّ الإسلام حق وما عداه باطل، وأن المسلمون هم المؤمنون، ومن عداهم كافرون، ويترتب على هذا أنّنا فقط من نستحق دخول الجنّة ومصير الكافرين النّار.

لم تصمد كل الدروس التلقينية التي تلقيتها في البيت والمدرسة والمسجد والمجتمع أمام الرغبة في التعرف عن قرب على دين جماعة من أهل بلدي يوصفون بالأقلية، أقصد المسيحيين الأقباط. لا جديد سأجنيه إن حاولت التعرف على دين آخر من خلال مصادر ديني. سيأتي الجديد فقط حين أفتح عقلي وقلبي وأتعرف على دينهم من خلالهم، وأعايشهم أهم أسبوع في عامهم، إنّه أسبوع الآلام. لم أتصور كيف كنت بضيق الأفق هذا أن عشت في القاهرة مع المصريين المسيحيين خمسة عشر عامًا دون أن أعرف ما أسبوع الآلام ولمَ يحتفل به جماعة من أهل بلدي؟

تابعت قناة أغابي المسيحية كل يوم في أسبوع الآلام، وشاهدت كيف يصلون ويتعبدون، ويمارسون معتقدهم في صلب المسيح _عليه السلام_ ويعيدون سرد حادثة الصلب ويعيشون داخلها لحظة بلحظة. هذه المعايشة تتم من خلال قراءة ما حدث في كل يوم من أيام هذا الأسبوع في الكتاب المقدس، والاستماع لتأملات وتفسيرات الأساقفة والقسيسين لتتابع هذه السردية. كلّ الشعائر والصلوات تُقام  في الكنيسة وبرعاية رجال الدين. لاحظت وفهمت هذا المخزون التأملي الكبير  الذي استدعته حادثة الصلب، يفيض على المسيحيين معانٍ جليلة في أفهامهم ونظرتهم للكون وأخلاقهم وتعاملاتهم بل وتكوينهم النفسي. يتحدث رجال الدين المسيحي عن الفداء وتكفير الخطايا، يتحدثون عن الحب والمحبة، والحنان والترفق، عن الإيمان بالله والكفر بالشيطان ومقاومته وصدّه، يتحدثون عن الابتلاءات وتكفير  الذنوب والمعاصي، عن الاطّراح بين يدي الله، والتوبة. إنّها معانٍ جليلة أجد لها نظيرًا في ديني! يستلهمون إيمانهم بصلب المسيح لينشؤوا فنونا جميلة؛ رسمًا ونحتًا وتصويرًا وغناءً وعزفًا وموسيقى وترانيمَ وتمثيلاً. أدركت حينها كيف تتشابه بعض الظواهر بين الأديان على الرغم من اختلاف المصدر، وأدركت كذلك كيف يمكن أن تؤثر مفاهيمنا الدينية على حياتنا الاجتماعية، ومن ثمّ على تعايشنا المشترك.

إنّ التعايش في سلام يبدأ من فهم الآخر من حيث هو، لا من حيث أنا؛ من حيث يشرح نفسه بناء على مصادره لا من حيث أحكم عليه من خلال مصادري؛ يبدأ حين أتخلّى عن مسلماتي وأقترب منه ومن معتقداته بقلب وعقل مفتوح ونقي؛ يبدأ حين نكون على استعداد أن نعلم أطفالنا في المدارس ماذا يعني الدين إجمالاً؟ وماذا تعني المسيحية وماذا يعني الإسلام؟ كيف نصوم ويصومون؟ كيف نصلي ويصلون؟ كيف نؤمن ويؤمنون؟ هنا، يمكن أن نتوقف لنقول إنّ التعايش الحقيقي بين أهل الأديان لا يمكن أن يتم دون أن نعيد النظر في مقولتي الإيمان والكفر، كلّ دين بحسب مصادره المؤسّسة له؛ ثمّ في تجنيب هاتين المقولتين مجالَ السياسة والحرب تمامًا. 

الأربعاء، مايو 01، 2013

تأمل في الدين والواقعة المؤسِّسة


أتابع في هذا اﻷسبوع باهتمام بالغ مراسمَ اﻻحتفال بأسبوع اﻵﻻم عند المسيحيين، بغيةَ فهم المسيحية والمسيحيين أكثر. ما زلنا اليوم في أربعاء البصخة، وما زال المسيح/ اﻹله يتألم وفقًا للاعتقاد المسيحي ولمّا يمت بعد.

ﻻحظت أثناء متابعتي بعض القنوات القبطية أنّ الدين المسيحي كله ، والذي تطور وتشكل عبر اﻷزمان وتفرق إلى طوائف ومذاهب، مؤسَّسٌ على هذه الواقعة تحديدا، أعني واقعة صلب المسيح حسب اﻻعتقاد المسيحي. وهو ما تبدّى في قول البابا شنودة: “المسيحية هي الصليب والصليب هو المسيحية"، تذكرني هذه اللحظة/ الواقعة المؤسِّسَة بواقعة استشهاد الحسين في كربلاء، والتي تأسس عليها المذهب الشيعي كله. وعلى الرغم من تطور المذهب الشيعي وتعقده عبر الزمن وتفرقه إلى مذاهب إﻻّ أنّه ظلّ مبتدئًا ومؤسّسًا على هذه الواقعة. وعلى الرغم من وجود واقعة استشهاد الحسين في التاريخ السني كذلك، واﻻعتراف بها، إﻻ أنها لم تشكل لحظة مؤسّسة لتطور ديني بعدها. 

هنا تستوقفني هذه المقارنة، ﻷحاول البحث عن واقعة تأسيسية للإسلام إﻻّ أنّي لم أجد، فلا أستطيع أن أقول أنّ لحظة الوحي للنبي، أو لحظة الهجرة، أو لحظة موت النبي مثلاً تمثل لحظة فاصلة في الوعي التاريخي للمسلم، أو واقعة مؤسّسة لتطور ديني يبتدئ بناء عليها واستلهامًا منها. وهذا ما يجعل قابلية اﻹطلاق في اﻹسلام أعلى من قابلية النسبية والمحدودية. 

وكذا تستوقفني نقطة نظام مهمة فيما يتعلق بالحوار المسيحي اﻹسلامي، وهي أنّ أي محاولة للتقارب العقدي أو محاولة طرف لتصحيح عقائد طرف آخر هي محاولة محكومٌ عليها بالفشل ابتداء، وغير ذات فعالية في الحوار.   يخبرنا القرآن أن المسيح لم يُصلب، بل رُفع ، "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم" إنّ مجرد تصور هذه اﻵية الكريمة سيعني هدم البناء المسيحي كله على رأس معتقديه. البناء الذي يشمل اعتقاداتهم، ونظرتهم للكون، وتكوين نفوسهم ، ونظرتهم إلى الحياة اﻵخرة، فضلا عن مؤسساتهم من كنائس وأديرة وما يستتبعها. أفيُعقل أن نتحاور فيما هو مؤسّسٌ لدين!! إنّ محاولة الحوار في عقيدة صلب المسيح، إن تجاوزت مرحلة الشرح والتفسير إلى مرحلة محاولة اﻹقناع، ستؤدي حتمًا إلى أن يكفِّر بعضنا بعضًا، فكيان المسيحية كله مؤسَّسٌ على هذه الواقعة، والقرآن يخبرنا في بساطة أنّ المسيح لم يُصلب. إذًا، فلنترك العقائد جانبًا ولنا في الحوار اﻷخلاقي والفكري متّسع.

و لا يفوتني هنا مباركة عيد الفصح لجميع المسيحيين، والذي استدعى لي هذا التأمل!