الخميس، أغسطس 22، 2013

هوامش إنسانية على متون المجازر الوحشية








259 جثمان اصطفت على السجاجيد الحمراء في مسجد الإيمان في هذا اليوم قبل أسبوع. خرج منها 216 جثمان لإكرامه على صيحات الله أكبر المختلطة بنحيب الرجال، وآهات النساء... 

 بكاء النساء المكلومات يقتلع القلوب، وزغاريد أخريات يبعث على الجلال مع تتالي جنائز الشهداء ...
في هذا المشهد، لم يكن هناك سوى طفل واحد بين الخامسة والسابعة من العمر .. في معظم الأوقات هو نائم مطمئنًّا لرعاية أحد المتطوعين لحراسة المسجد وإكرام الشهداء... ساقتني قدماي إلى مكان جلوسه حين أردت المساعدة في توثيق أسماء بعض المفقودين. فسألني من يعتني بأمره أن الطفل يريد أن يقضي حاجته... أخذته على الفور  أحاول أن أجد طريقًا بين جثامين الشهداء وأنا لا أدري إن كنّا سنمر أو نصطدم في جثمان أبيه أو امه أو كليهما.... كان الخروج بالطفل من مسجد الإيمان  أشبه بالمغامرة  ...

نجحت أخيرا في اصطحاب الطفل إلى مصلّى السيدات، ولعدم خبرتي بالأطفال فقد طلبت المساعدة من سيدة كبيرة ، كانت ممن نجوا من مجزرة رابعة> أخبرتها أنه ليس ابني، بل هو طفل تائه كان في الاعتصام ثم نجاه الله وأتى به إلى مسجد الإيمان...
ما اسمك يا حبيبي؟
مصطفى
ما اسم أبيك؟
أبو مصطفى
طيب ما اسم أمك؟
أم مصطفى
طيب أين والدك؟
وداني الجامع (رابعة) وبعدين مشي

لم يذكر مصطفى أي شيء! وبدا شاحب اللون، هاربًا إلى النوم، صامتًا لا يتكلم.

تركت الطفل مع أم عبد الله، وقد انعقدت اللحمة بينهما فورًا،  ثم خرجت هائمة على وجهي علني أجد محلّا لملابس الأطفال أعوضه عن ملابسه التي أتلفها فوجدت جميع المحال القريبة مغلقة...

عدت إلى المسجد ولا يزال أهالي الشهداء يودعون شهيدًا تلو الآخر، ولا زالت الصيحات والآهات والزغاريد مختلطة ...
لم أكن أدري كيف أعتني بمصطفى  ... وصلت فإذابأم عبد الله قد عرفت شابتين متطوعتين لرعاية من نجوا من الاعتصام وتبرعت إحداهن بكسوة لمصطفى... لم تمر سيدة على مصطفى إلاّ وسألت عنه وعن قصته وعطفت عليه، منهن سيدة كبيرة أخرى ذات خبرة في رعاية الأطفال...

 نجحت الحاجة تهاني في استنطاق الطفل الصامت غير أنه لم يذكر شيئًا، ولكنه استجاب لها فطعم وشرب وضحك... وحين كانت تلبسه إحدى أمهاته وجدت مكتوبا على ذراعه باللون الأحمر: "محمد فريد فرج" !!
وفي خلال ساعة واحدة، أصبح لمصطفى ثلاثة أمهات، وجدتان،  والعديد من الخالات والعمّات...
التقطنا له صورة ورفعناها على فيس بوك علّنا نصل لأبيه او أمّه إن لم يكونا من المسجّين على سجاد مسجد الإيمان ...

تركت مصطفى في السابعة مساء في مصلى السيدات آمنة عليه  في صحبة إحدى جدتيه وإحدى أمهاته، وفي العاشرة مساء حين اقتحمت الشرطة المسجد، أخذته أم عبد الله وخرجت فأبى مصطفى وبكى قائلا: "أريد أن أحمي المسجد من الأشرار " ... أخرجت الشرطة مصطفى وجدته الجديدة أم عبد الله هائمين  على وجهيهما في حظر التجوال حتى استقبلهما أحد الكرماء من أهالي الحي...

حصلت صورة مصطفى على أكثر من 2600 مشاركة على الفيس بوك، ولمدة أربع ساعات متصلة لم يتوقف هاتفي عن الرنين.  تلقيت عشرات الاتصالات، منها اتصالات دولية من السعودية وألمانيا وأمريكا... بالطبع لم يكن هناك سوى اتصال واحد يخص ذوي الطفل، عندما اتصلت صديقة لعمته تقول: إنّ الطفل اسمه محمد، وقد انتابها الهلع على الطفل ولم تصدق أنه ما زال حيًّا...

باقي الاتصالات، كانت بين مطمئن على الطفل وبين عارض لإيواء الطفل.... منهن سيدة موسرة عرضت الكفالة !
وفي صباح الجمعة، كان مصطفى في حضن والديه من جديد ... في أقل من 12 ساعة من لحظة نشر صورته ... اطمأننت على مصطفى وتركت نفسي مع إحساس خجول بالتفاؤل ... أنه على الرغم من قسوة المجازر  التي نتعرض لها  وعلى الرغم من توحش بعض الناس من كارهي الإخوان متشفيّا من قتل إخوته ، إلا أنّ مجتمعنا مليء بالطاقات الكامنة للتضامن والتعاضد والتكافل ... لقد تلقى مصطفى عروضًا سخية بالكفالة وأغرقته أمهاته وجداته البديلات بالحنان والعطف ...

إننا أحوج ما نكون إلى إظهار هذه الطاقات الكامنة وتفعيلها وتنظيمها... فالدعم اللحظي الذي يقدم لعوائل ضحايا مجازر النظام يجب أن يستمر ويعم أطفال الشهداء والمصابين والمفقودين والمعتقلين وذويهم...

 لسنا في رفاهية انتظار عدالة مؤجلة ولسنا في حاجة إلى تسول الدولة المعادية لشعبها لتعطي تعويضات هزيلة على مضض، بل لدينا ما يكفينا ويغنينا... نحتاج فقط إلى الشحذ و التعاون والتآزر ....

رحم الله الشهداء وشافى الجرحى وفك أسر المحبوسين وأعاد المفقودين و ألهم ذويهم الصبر وأنبت أبناءهم نباتًا حسنًا ....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق