الأحد، يناير 08، 2012

المعنى وسط ركام المادّة: تحليل لفيلم الساعات

كتب في 15 مايو 2003

يصور الفيلم حياة  ثلاث سيدات في أزمنة متتالية تدور حياتهن حول معنى واحد. البطلة الأولى هي الروائية فرجينيا وولف. تعيش فرجينيا في بداية القرن 1923، وتكتب عملا أدبيًّا خالدًا، تودعه كل أسرار خيالها الحالم، وعالمها الجواني. وكانت فرجينيا _على الرغم من موهبتها الأدبية العالية_ حزينة  تعيسة، فضلّت الموت على الحياة، وقضت على حياتها بالانتحار، كان ذلك في العام 1941. والبطلة الثانية هي (لورا براون) عاشت في الخمسينيات من القرن الحالي. ويصور الفيلم جزءًا من شريط حياتها في 1951 م، وهي سيدة بسيطة _هكذا تبدو_ تعيش حياة هادئة مع أسرتها الصغيرة المكونة من زوج وابن، وتنتظر مولودها القادم بعد عدة أشهر. وعلى الرغم من بساطتها في الظاهر، فإنّ نفسها عميقة ومختلفة...ويبدو أنّ رواية فرجينيا كانت على درجة من العظمة أن كانت سببًا مباشرًا وراء الانقلاب الذي حدث في حياة (لورا). وتأتي البطلة الثالثة (كلاريسا فاجان) عام 2001 م لتقدم لنا نموذجًا ثالثًا، يبحث هو الآخر عن المعنى والسعادة، ولا تجده سوى في العطاء والمساندة، وتقف بجانب الكاتب العظيم (ريتشارد لينجز) لينجز أعماله الخالدة، ثم يفقد القدرة على الحياة والمقاومة، ويموت منتحرًا. 
ويتراءى لي أنّ الفكرة الجوهرية للفيلم هي ((((الاختيار والإرادة، وما يرتبط بها من أسئلة القدر والوجود النهائية في الحياة. و(الاختيار والإرادة) هي قيمة وفطرة منحها الله للإنسان، وحمّله أمانة الاستخلاف على أساسها. وبدون الاختيار لا يكون الإنسان مسؤولاً، وبالتالي لا يكون محاسبًا، ولاجزاء حينها. وهي قيمة عليا يشترك فيها بنو البشر جميعًا على اختلاف مراتبهم، ودرجاتهم في الحياة، وعلى اختلاف مستوى ذكائهم وإدراكهم. وفكرة (الإرادة) بهذا المعنى مرتبطة بفكرة السعادة في وجدان الإنسان، ومرتبطة _في ذات الوقت_ بمعنى القدر والوجود. وتبدو المعاني الثلاثة كحلقات متصلة، ومترابطة في سلسلة واحدة، وتتمثل في تفاصيل الفيلم بقوة ووضوح، ناهيك عن نهايته.

ويصور الفيلم حياة البطلة الأولى (فرجينيا) التي كانت ترتسم على ملامحها الجميلة الوادعة، لمسة من الحزن. ولا يخطئ الناظر إليها من أول مرة تعاستها وحزنها الداخلي. وتعيش فرجينيا في قرية هادئة، وبيت جميل، في ظل زوج حنون، وهي على موهبة روائية عالية. وكل هذه مؤهلات ترشح فرجينيا _بجدارة_ للسعادة؛ ولكنها على النقيض، تشعر بتعاسة وكآبة، وفقدان للمعنى. وكانت تتمنى أن (تختار حياة غير حياتها هذه التي فرضها عليها أطباؤها النفسيّون الذين فرضوا عليها نظامًا حياتيًّا يكفل لها (الطمأنينة) كما يرون. واستجاب زوجها المتفاني في سبيلها لهذا المطلب، وهاجر بها لقرية هادئة، وصنع لها جوًّا هادئًا للقراءة والكتابة، وألحق بالبيت مطبعة لتكون تحت خدمتها؛ ولكنّ فرجينيا لم تكن تريد كلّ هذا. لقد كانت تريد أن (تختار) بنفسها، وتعود للحياة في مدينة لندن الصاخبة المتعبة. ولا يستجيب زوجها لهذا المطلب خوفًا عليها، فتختار الهروب من عالمها الواقعي إلى عالمها الخيالي، وهناك تعيش مع أبطال روايتها (وتختار) حياتهم ومصائرهم بنفسها. ويبدو أنّ زوج فرجينيا العطوف لم يكن قادرًا على إسعادها كزوجة، فتلجأ لإشباع لذتها الحسية مع أختها التي تزورها مع أولادهاكل فترة. وفي إحدى زياراتها، وبينما كان الأولاد يلعبون أصاب أحدهم عصفورةً فقتلها، ويمر الموقف مرورًا عابرًا على أختها وعلى الأطفال... لا أثر له؛ ولكنّ الموقف يستوقف فرجينيا _الأديبة الحالمة_ وتنظر إلى عيني العصفور، وتغرق في تأملها. وهنا جالت في خاطرها فكرة غيّرت مجرى حياتها... فكما أنّ هناك (حياة) فهناك (موت) ولا معنى للحياة دون سعادة، ولا قيمة لها دون اختيار. وهنا يمكن لها أن تختار بين الموت والحياة، وتختار فرجينيا الموت على الحياة، وتغرق فرجينيا في البحيرة بإرادتها، وتموت؛ ولكن يبقى عالمها الداخلي المحفوف بالأسرار محفوظًا بين سطور روايتها الخالدة.

وتأتي البطلة الثانية (والدة ريتشارد) لتصور لنا حياة أكثر بساطة، فهي تعيش مع أسرتها الصغيرة الهادئة، وزوجها العطوف الذي يحبها بكل إخلاص وأمانة، ويهتم براحتها، ويقصّ على ابنه قصة إعجابه، وزواجه من أمّه، وكيف جذبته بحيائها ورقتها. وتبتسم (لورا) لابنها وزوجها ابتسامة هادئة، ولكنها حزينة. وعلى الرغم أنّ (لورا) تبدو بسيطة إلاّ أنّها مختلفة جدًّا في أعماقها، فهي لا تشعر بالسعادة على الرغم من كلّ ما يؤهلها لها. ولم يكن زوج (لورا) يعلم أنّ زوجته ليست سعيدة معه، ما اضطّر (لورا) أن تخفي حزنها وتعاستها في أعماقها، وتلجأ لطلب اللذة مع صديقتها. وكان يومًا فارقًا في حياة (لورا) عندما جاءتها صديقتها تزورها على غير موعد، وتفاجئها بالخبر السيء أنّها ستُجري جراحة استئصال لورم في رحمها، وتبدو صديقتها متماسكة، ويقضيان آخر لذة لهما، ويودّعان بعضهما. وهنا أحسّت (لورا أنّها فقدت الإحساس البسيط الذي كان يلهيها عن تعاستها الداخلية. وهنا يبرز الفيلم فكرة الاختيار بين الموت والحياة. وفي لحظة فارقة كذلك، تدرك (لورا) أنّ إرادتها ليست ملكها تمامًا. بل يشاركها فيها إنسان آخر، هو جنينها الذي تحمله في أحشائها، وليس لها الحق أن تفرض عليه اختيارها. وتختار (لورا) الحياة، وتضع جنينها؛ ثمّ تقرر الهجرة إلى كندا، وتعمل هناك أمينة مكتبة، وتخلّف وراءها طفلين جميلين، وزوجًا هادئًا عاجله الموت بالسرطان. وربما تبدو (لورا) هادئة، وحيية، ووديعة كما وصفها زوجها، ولكنّه لم يدرك أنّ نفسها مختلفة جدًّا. إنّها لا تهوى الحياة التقليدية الرتيبة ولم تسعد بها. لقد قرأت رواية فرجينيا، وتأثّرت بأبطالها وبشخصية الروائية نفسها. وأرادت (لورا) أن تحلق بعيدًا في حياة مختلفة في آفاق المعرفة، والاطّلاع، واتّساع الإدراك، فاختارت أن تكون (أمينة مكتبة). وأرى هنا أنّ اختيار (لورا) كان بين الواجب والحرية، فاختارت الحرية، وتخلّت عن واجباتها الإنسانيّة كأم وزوجة، وهي تبدو لذلك غير مسؤولة، ولكنّها مغامرة.
كبُر (ريتشارد) دون سند الأمومة، وكان حدث تخلّي والدته عنه كفيلاً أن يطبع في نفسه، وينقش في ذاكرته، ولاوعيه آثارًا نفسية عميقة. وربما ورث (ريتشارد) عن أمّه موهبتها الدفينة. كان يحب المعرفة، ويريد أن يكتب ويكتب ويكتب ... يكتب عن كلّ شيء في الحياة، هكذا كان يقول لصديقته المخلصة ((())كلاريسا، الشخصيّة النسائيّة الثالثة في الرواية.


وتمثّل (كلاريسا) الشخصيّة المعطاءة المضحيّة، التي لا ترى سعادتها سوى في مساندة وإسعاد من تحبّهم. ظلّت سنوات وسنوات وسنوات ترعى ريتشارد، وتحبه وتفهمه كما لم يفهمه أحد، وتسانده حتّى ينجز عملاً أدبيًّا عميقًا. وتبدو لي ملامح (كلاريسا) غير تعيسة، ولكنّها غير سعيدة كذلك، وهي تبتسم للحياة ولابنتها ولريتشارد على الرغم من تعاستها الداخلية. هذا على عكس ملامح فرجينيا التي تبدو حزينة دائمًا، وغارقة في عالمها الداخلي، وسابحة في عالمها الخيالي؛ وعلى عكس (لورا) التي تبدو ملامحها طموحة وواقعيّة، ومغامرة، ولو على حساب الواجب.
وبعد تحليل الشخصيّات، نلقي الضوء على ظاهرة تكرّرت كثيرًا في الفيلم، وهي ظاهرة (الانتحار) والسعي وراء الموت. بدا ذلك في مصير (فرجينيا) ومصير (ريتشارد)، وكادت لورا أن تقدم عليه. والموت، ولو كان انتحارًا، يعكس فطرة الإنسان التي تصدق أنّ هناك عالما آخر بعد الموت، يمكن أن يجد فيه الإنسان السعادة التي عجز عن العثور عليها في الدنيا.
وثمّة ظاهرة أخرى تكرّرت، هي ظاهرة (الشذوذ الجنسي) ولاغرابة أن تمارسها كلٌّ من فرجينيا، ولورا فقط، حيث تبحث كلتيهما عن السعادة الذاتيّة، ولو على حساب الآخرين. هذا على عكس شخصيّة (كلاريسا) المعطاءة المضحيّة، التي يمنحها عطاؤها معاني جديدة وعميقة في الحياة، تمنعها من التفكير في الموت والانتحار، كحل لمشكلتها في التعاسة. أمّا الأخريان، فتعجزان عن التواصل والعطاء مع كلّ من حولهما، فتلجآن لطلب السعادة المعنويّة بتعويض مادّي حسّي، وهو طلب اللذة الحسيّة، ولكن، أنّى للمادة أن تحلّ محلّ الروح !!!
ويمكن تصنيف الفيلم على أنّه (فلسفي) من الدرجة الأولى، يصوّر رحلة الإنسان الخالدة في بحثه عن إجابات الأسئلة الكليّة النهائية، ومعنى وجوده. من أين أتيت ؟ ولماذا أنا هنا؟ وهل هناك عالم آخر وراء الموت؟ وما تعني السعادة ؟ وأين أجدها؟ وربما يكون مدعاة للتفاؤل أن يولد هذا الفيلم الفلسفي _الذي يُعنى بالمعنى والقيمة_ من رحم السينما الأمريكية، ونموذجها المعرفي المادّي !!!

هناك تعليقان (2):

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. أعجبني التحليل فعلًا..كنتُ قد شاهدت الفيلم، وفكرت فيه كثيرًا.
    لم أربط فعل البطلتين (فرجينيا) و(لورا) أنه علامة على سلوك هروبي (شذوذ مستمر). اعتبرتها علامة على الأنانية، لم تحدث غير مرة. لكن هذا لا يهم..لأن تحليلك في هذه النقطة مازال فعّالًا.

    خطر ببالي بعد قراءة ماكتبتِ أن القصة بشخصياتها الثلاثة الرئيسية كحبات المسبحة..وأن الأنانية عنصر أصيل لدى فرجينيا الكاتبة، ولورا، وريتشارد..كأنه انتقل من نفسية فرجينيا حتى وصل لريتشارد.

    وأنه ربما كان مقاومة التعاسة تكون بالعطاء كما تفعل كلاريسا. لكن حتى العطاء له حد، وإلا صار عبئًا يجلب التعاسة إذا لم يلقَ استجابة.
    --
    عذرًا لقد أزلتُ التعليق لأنه ظهر عندي مكررًا.

    ردحذف