الخميس، مارس 22، 2012

غناء شرقي أمريكي

كتب في 10 يونيو 2010

لم أدرك لوقت طويل من الزمن، ما للموسيقى من أثر سحري في الروح والنفس، أحب _مثل كثير من الناس_ الاستماع بين حين وآخر لمعزوفات ومقطوعات وأغنيات من هنا وهناك، ومنذ عدة أعوام أتاحت ساقية الصاوي في القاهرة، حفلا شهريًّا لعازف العود الرائع نصير شمة، والموسيقار عمر خيرت، والمغني الكبير علي الحجار، فحضرت كثيرًا منها، وطربت طربًا كبيرًا لنصير والحجار. 

و في 17 يوليو 2010 كنت على (موعد مفاجأة)، مع فرقة فنون الشرق الأوسط، القادمة من جامعة كاليفورنيا سانتا باربرا، من الولايات المتحدة الأمريكية. قدمت هذه الفرقة عروضها على المسرح المكشوف في دار الأوبرا المصرية، ذهبت لأحضر الحفلة بصحبة نفسي فقط ! جلست في الصفوف الخلفية، لازدحام الأمامية بالكثير من الأسر المصرية التي جاءت تحضر بصحبة أطفالها، فضلاً عن شباب وفتيات الجامعات. 


بدأت العروض بطرب لأم كلثوم ( قبل ما تشوفك عيني)، غنتها مغنية أمريكية !! ترتدي ثوبًا شرقيًّا أصيلاً. لا تستغرب إذا قلتُ لك  إنّ هذه هي المرة الأولى التي سمعت فيها هذه الأغنية لأم كلثوم !! وياللعجب إذا كنت قد سمعتها للمرة الأولى بصوت أمريكي يحاول جاهدًا تقليد صوت عربي أصيل غير تقليدي. أنصتُّ لصوت الأمريكية، وبدأت في الابتسام شيئًا فشيئًا، فقد أدركت بعد برهة ما بذلت هذه الأمريكية من جهد جهيد، ووقت طويل للتدريب، بدءًا من التدرب على مخارج الحروف العربية البادئة من الحلق والمنتهية بالشفتين، وحتى الأداء الغنائي غير العادي لأم كلثوم، مرورًا _بالطبع_ بتعلم مبادئ العربية، وحفظ كلمات الغناء العربي. بالطبع لم تكن جميع الحروف صحيحة، ولم يكن الأداء عالي الجودى، ولكن لم يمنع هذا أيَّا من الحاضرين من الطرب قليلاً أو كثيرًا. وهذه ليست هي الأغنية الوحيدة لأم كلثوم، فقد أدّت مغنية أخرى _ أمريكية كذلك_ أغنية (أنا في انتظارك) وقد تناهى صوت الثانية إلى أذني كما الأولى تقريبًا. 

الحقيقة لقد خضت خبرتين في آنٍ واحد، خبرة سماع أغاني مصرية أصيلة لأول مرة، وخبرة سماعها لأول مرة بأداء أمريكي !! كانت أول مرة أسمع أربع أغنيات لسيد درويش: (الحلوة دي قامت تعجن في البدرية) و (زوروني كل سنة مرة) و (طلعت من بيت أبوها)، (طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة). 
وكانت أول مرة أتعرف بمحمد عبد المطلب، الذي غنوا له أغنية  (مين عذبك بتخلصه فيه)، وكذلك محمد الكحلاوي، الذي غنوا له أغنيتين: (لجل النبي، يارب توبة) وفريد الأطرش ( ما قالي وقلتله)، وفايزة أحمد ( والنبي يامة، غلطان يامّة) و(ماما زمانها جاية)، و سيد مكاوي ( الله الذي لا إله إلا هو)، وفيروز (سألوني الناس) وختمت الأغاني بأغنية ( زي الهوا) لعبد الحليم حافظ. 


و ما بين كل أغنية وأخرى، تُؤدّى رقصة من بلاد شرقية مختلفة، أدّتها سبع راقصات أمريكيات، تتفاوت أصولهن ، فراقصة من شرق آسيا، وأخرى شقراء ربما من البلاد الروسية، وثالثة تكادت قترب أصولها من العربية، وكلهن في العشرينيات من العمر، فيما عدا واحدة تخطو نحو الخمسين، اتضح فيما بعد أنّها مدربتهن. 
الرقصة الأولى هي الدبكة اللبنانية، والثانية كانت رقصة من أرمينيا، والثالثة هي الرقصة الصعيدية، و الرابعة هي الرقصة الخليجية، والخامسة هي الرقصة الفارسية. شاهدت هذه الأداءات من قبل، ولكن الأرميني والفارسي كانا جديدين عليّ تمامًا، وهما رقصتان رقيقتين جدًّا، جميع الحركات فيها بالأيدي والأرجل والإيماءات، لا يوجد فيها أي خدش للحياء، بل على العكس تشعرك بالسمو والرقي، وكأنك انتقلت فجأة إلى عالم الجواري والقيان ! 

انتهى الحفل بتصفيق كبير للأوركسترا الأمريكية الشرقية، بعد أن أدّى المايسترو عزف الناي الصعيدي الشادي، صفق الجميع لهؤلاء الأمريكيين الذين جاؤوا إلينا يقدمون لنا فنوننا الغنائية الحديثة التي لم يزد عمر بعض أغانيها عن أربعين عامًا. وظلّت علامات التساؤل تتراقص أمام عينيّ، بحثًا عن إجابة، تفسر لي لماذا يدرس الأمريكيون الشرق الأوسط في كل شيء ؟ حتى أغاني سيد درويش، والرقص الأرميني ؟ بل ويستثمرون فيه من الموارد، ويخرجون من المتخصصين، ما يجعلهم ينافسوننا في أصالتنا، ويتحدون كل الصعوبات، ويقتحمون كل العقبات، لإنشاء أقسام تدرس حتّى فنون الشرق الأوسط ؟! ربما استطعت إقناع نفسي بعد تفكير أنّ أمريكا تريد أن تجمع الدنيا كلها على أرضها، لتغدو أمريكا العالم كله، ولتعمل جامعاتها على أن تكون بؤر بحثية تفهم كل شيء عن أي شيء في العالم، ماضيه وحاضره ومستقبله !  وهل سيكون ذلك في سبيل قيمة المعرفة، أم قوة السياسة، أم شيء ثالث، سؤال آخر يحتاج إلى تفكير وبحث !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق