الخميس، يونيو 18، 2020

في "معنى" الانتحار

                                                                                                                                        
عادةً ما تثير حالات الانتحار التي تخرج إلى العلَن زوبعةً إعلامية بسبب الفزع من الانتحار في ذاته. ولكن حالة الشابة المصرية "سارة حجازي" أثارت إلى جانب الانتحار، جدلاً مركبًا متعلقًا بالمثلية والسجن والإلحاد. ولكن وجود المتلازمات الأخيرة لا يمكن أن تُقبَلَ عِلَلاً  للانتحار. إذ تحدث حالات انتحار أخرى في غيابها، كما إن "سارة حجازي" قد حصلت على اللجوء والأمن في كندا، واستطاعت أن تعيش مثليةً وملحدةً هناك. فلا يمكن إذن اعتبار هذه المتلازمات أسبابًا كافية للاندفاع نحو الانتحار.

لا ريب أنّ الانتحار عُرف قديمًا، إذ ورد ذكرُ هذه المادة "نحَرَ" في معاجم اللغة، يقال: "انتحر الرجل أي نحرَ نفسه" لكنّ انتشارُ الانتحار ظاهرةٌ حديثةٌ نسبيًا. إذ تدلنا بعض الكتابات والأحاديث التلفزيونية أنّ الظاهرة كانت منتشرة إلى حدٍ كبير في الولايات المتحدة وأوروبا في مستهلّ القرن العشرين. بل وتدل بعض الكتابات أنّ حالات انتحارٍ قليلة - ولكن مؤثرة - كانت تحدث في مصر، إذ كتب الشيخ مصطفى عبد الرازق (1885 – 1947) في جريدة السفور مقالاً بعنوان "الانتحار" نشر في 21 مايو 1915 يقول فيه: "تزداد عندنا حوادث الانتحار وتنتشر في جوانب القطر وبين مختلف الطبقات. وإنّ المطّلع عل صحفنا، المتتبع لأحاديث مجالسنا ليحس بارتياع الناس من شيوع ذلك العارض الاجتماعي أشد من ارتياعهم لتلك الحميات الوبائية الذاهبة في طول البلاد وعرضها." وعرَ ض الشيخ مصطفى عبد الرازق لبعض حالات الانتحار التي قرأ عنها في الصحف في ذلك المقال.

ويربط بعض الأطباءالنفسيين مثل العالِم النفساني فيكتور فرانكل (1905 – 1997) بين "الحداثة" وشيوع الانتحار، قائلاً: "تيسرت الآن وسائل الحياة لكثيرٍ من الناس، ولكن لا يوجد لديهم معنى للحياة من أجله." وكان فرانكل من أوائل الأطباء الذين انتبهوا لظاهرة شيوع الانتحار انتباهًا شديدًا في عشرينينات القرن العشرين. وعزا هذه الظاهرة إلى "فقد المعنى" حيث يرى فرانكل أنّ "المعنى" من الدوافع المركزية لسلوك الإنسان، وبدون المعنى قد يفقد الإنسان "حياته". استطاع فرانكل تطوير طريقة "العلاج بالمعنى" التي استفادها من الفلسفة وأدخلها في وسائل الطب النفسي الحديث. وفي أعوام 1928 – 1930  أنشأ فرانكل مراكز مشورة لمناقشة العدد الكبير لحالات الانتحار وسط الشباب. نجح هذا البرنامج فلم يُقدِم أيّ شاب على الانتحار في فيينا عام 1931.

ولكن "فقد المعنى" الذي يرى فيكتور فرانكل أنّه سبب شيوع الانتحار بين الشباب، ليس هو السبب الأوحد لإقدام إنسانٍ ما على إنهاء حياته. ثمّة سببٌ آخر وهو "الألم" أو فلنقل هو "الألم غير المحتمَل."

يرى الإمام أبو حامد الغزالي (ت 1111 م)  أنّ الإنسان لا يُؤثر الموت على الحياة إلاّ لمقاساة ألمٍ لا يصبرُ على احتماله. يقول الإمام أبو حامد الغزالي: "إنّ المحبوب الأوّل عند كلّ حيٍ نفسُه، ومعنى حبّه لنفسه أنّ في طبعه ميلاً إلى دوام وجوده، ونُفرةً من عدمه وهلاكه لأنّ المحبوب بالطبع هو الملائم للمحب، وأيّ شيءٍ أتمّ ملائمةً للإنسان من نفسه ودوام وجوده؟! وأي شيءٍ أعظم منافرةً من عدمه وهلاكه؟! فلذلك يحب الإنسان دوام وجوده ويكره الموت، ولا يحبّ الموت إلا لمقاساة ألمٍ في الحياة، فإنما يحبّ زوال الألم." إذن فإيثار الموت إنهاءً للألم حالةٌ معروفة في الزمن القديم.

والألم غير المتحمّل الدافع للانتحار قد يكون ألمًا نفسانيًا وقد يكون ألمًا جسمانيًا. فالأخير قد يطول أمده فيغدو مزمنًا، ويدفع المتألم للتفكير في الانتحار. تقول الصحفية الأمريكية جودي فورمان، مؤلفة كتاب "أمّة في ألم" الصادر عام 2014 أنّ المريض ذي الألم المزمن معرّض للتفكير في الانتحار مرّتين أكثر من المريض الذي ليس لديه مرض مزمن مؤلم. ورصدت في كتابها العديد من الحالات التي تقدم على الانتحار بسبب الألم الجسماني المزمن الذي لا أمل في شفائه. أمّا الألم النفساني المسبب للانتحار فتعريفه بحسب  المركز القومي الأمريكي للصحة " مزيجٌ من الشعور بالعار والذنب والإهانة والوحدة والخوف والقلق والهلع." وهذه المشاعر شديدةُ السلبيةِ والدنوّ فلا تستطيع إمداد الإنسان بالطاقة الكافية اللازمة للاستمرار في الحياة واحتمال آلامها؛ وذلك بحسب طبيب النفس الأمريكي ديفيد هاوكنز (1927 – 2012) الذي قال أنّ أدنى المشاعر هو الشعور بالعار، ولا شعور آخر أدنى منه، وهذا الشعور لا يستطيع إمداد الإنسان بطاقةٍ للحياة بل لا يستطيع الإنسان تحمله لأمد طويل، فيلجأ إلى الانتحار.

ويمكن أن نركبّ نظرية الألم مع نظرية المعنى فنقول إنّ الألم الذي لا معنى له أو الألم غير مفهوم المعنى قد يكون دافعًا أشدّ للانتحار.

يموت المنتحر وسرّه معه، أو فلنقول ألمه معه، ولا يستطيع أحد أن يتكهّن على وجه الحقيقة لمَ قرّر المنتحر مبكرًا جدًا أن "لا أمل" بمقدوره أن يغلِب الألم، أو أن لا معنى يمكنه أن يسمو بالألم إلى شعورٍ أعلى يربطه بالحياة لا بالموت.




x

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق