الاثنين، مارس 19، 2012

مفهوم الصحة المتكاملة عند د. زهيرة عابدين

كتب في 3 أغسطس 2008
نش سابقًا في أون إسلام

ارتبط اسم "أم الأطباء المصريّين: زهيرة عابدين" بمرض روماتيزم القلب في الأوساط الطبيّة والاجتماعيّة، المحليّة والعالميّة، حيث تمثّل أم الأطباء منعطفًا محوريًّا هامًّا في تاريخ مرض روماتيزم القلب في مصر؛ ليس فقط  لنجاحها في محاربة الوباء وخفض نسبته إلى 4% فقط بعد عشرين عامًا من العمل المتواصل، وإنما لتطبيقها مفهوم "الصحة الشاملة" في أسلوب علاجه ومكافحته، وقد شهدت الأوساط الطبية العالمية والمحلية على نجاحها في  مكافحة المرض في  وسط اجتماعي وبيئي تندر فيه الموارد، وتعجز فيه  الجهات الرسميّة عن التكفل بمسئولية صحة الفرد والمجتمع. 

ويجدر التعرض في هذه المقدمة لشيء من تاريخ المرض محليًّا وعالميًّا؛ للوقوف على التغير في منحنى الإصابة به، ففي الحقبة الأولى من القرن العشرين تصَدَّر مرض روماتيزم القلب قائمة أمراض الطفولة الهامة عالميًّا، ومع حلول منتصف القرن تغيرت صورة المرض في أوروبا والولايات المتحدة، حيث انخفضت نسبة الإصابة بروماتيزم القلب إلى أقل من الربع،  وانخفضت نسبة الوفيات من روماتيزم القلب إلى أقل من 1/20 حسب إحصائيات عام 1961م.( )

وفي نفس الزمان الذي نجحت فيه  تلك البلاد في محاربة المرض والقضاء عليه قضاءً مبرمًا، كان المرض مايزال وباءً منتشرًا في مصر، حيث كشفت البحوث الإحصائيّة التي أجرتها د.زهيرة عابدين في نهاية الخمسينيات الحجم الحقيقي للمشكلة في مصر، حيث تبين أن مرض روماتيزم القلب هو أكثر الأمراض المزمنة انتشارًا في الأطفال فوق الخامسة، كما أنه السبب الأول للوفاة بين الأمراض المزمنة في الأطفال بين الخامسة والخامسة عشرة، و تقدر عدد الحالات الحادة سنويًا في القاهرة وحدها بحوالي خمسة آلاف حالة مقابل مائة حالة في شمال أوروبا كلها. أما نسبة الحالات المتقدمة وحالات هبوط القلب فقد فاقت أربعة أضعاف مثيلاتها من الحالات التي قامت د.زهيرة بدراستها بمعهد تابلو للروماتيزم بانجلترا. ( ) 

تلك كانت حقيقة المرض في المجتمع المصري في نهاية الخمسينيّات كما درستها د.زهيرة عابدين، وكما تحدتها في صورتها القاتمة المظلمة، وأمام هذا التحدي الكبير كانت د.زهيرة تملك من العدة العلمية والبحثية والاجتماعية بالإضافة للمواهب الإدارية و الشخصية والنفسية ما أهلها لقبول هذا التحدي والتغلب عليه بجدارة وقوة. 

السياق الاجتماعي لمرض روماتيزم القلب

يعد مرض روماتيزم القلب من الأمراض التي يمكن تفسير حدوثها بمُرَكَّبٍ من الأسباب البيولوجية والوراثية والاجتماعية، بحيث لا يمكن حدوث المرض إذا انفرد أحد هذه الأسباب دون الآخر. فإذا أصيب طفل ذواستعداد وراثي بعدوى ميكروب سبحي خاص يدعى (streptococcus viridans ) فإن هذين السبيين لا يؤديان بالضرورة إلى الإصابة بمرض روماتيزم القلب بل لابد من توفر سبب ثالث، وهو الوسط الاجتماعي الذي يهيِّء البيئة المناسبة لنشاط الميكروب السبحي في جسم الطفل، لتتضافر الأسباب الثلاثة وتتشابك وتؤدي مجتمعة للإصابة بمرض روماتيزم القلب.

ويمكن وصف البيئة التي تهيء للميكروب السبحي الاستيطان والانتشار، بأنها بيئة ذات بيوت متلاصقة، رديئة التهوية، مكتظة بساكنين لا يملكون الحد الأدنى للمعيشة بالإضافة لانخفاض المستوى الثقافي ومستوى الوعي الصحي، ففي بحث أُجري في أواخر الخمسينيات بلغ متوسط ما يخص الفرد في أكثر من 60% من الحالات المترددة على عيادة مستشفى أبو الريش أقل من خمسة قروش يوميًّا، كما تبين أن أكثر من نصف الحالات تعيش بمعدل خمسة إلى سبعة أفراد في الحجرة الواحدة. ( )

أم الأطباء ومرض روماتيزم القلب
بدايات الاهتمام

تخرجت د.زهيرة عابدين في كلية الطب العام 1943م، وأثناء عملها كطبيب امتياز في  مستشفى أبو الريش الجامعي، لاحظت انتشار مرض روماتيزم القلب بين الأطفال، فدفعها ذلك لاختيار هذا الاختصاص، تقول:"وحينئذ بيَّتُ العزم على أن أعمل شيئًا، وتوجهت إلى الله سائلة إياه العون والتوفيق"( ).

وفي العام 1945 عادت د.زهيرة عابدين من انجلترا برفقة أسرتها حاملةً درجة عضوية الكلية الملكية البريطانية، لتُعين كمدرسٍ مساعدٍ في مستشفى أبو الريش، حيث لاحظت استمرار تضخم مشكلة انتشار مرض روماتيزم القلب، وحين أتيحت للدكتورة زهيرة  فرصة السفر لانجلترا ثانيةً، التحقت بمعهد تابلو للروماتيزم لدراسة أمراض القلب في الأطفال، حيث كرست جهدها لهذا المرض، ودرسته على المستوى البحثي والإكلينيكي والاجتماعي،  واطّلعت د.زهيرة على خطط مكافحة المرض و القضاء عليه في انجلترا وغيرها من الدول الأوروبية، حتى اكتملت لديها "خطة عمل" آلت على نفسها الالتزام بها حين عودتها لوطنها.

عادت د.زهيرة عابدين إلى أرض الوطن أواخر عام 1956م، تفكر كيف تساعد هؤلاء الأطفال وكيف تنجو بهم من الموت وتعطيهم الحق في حياة صحية كريمة، وبدأت زهيرة عابدين تخطو أول خطوة في وضع معارفها العلمية و البحثية التي تلقتها وخَبِرَتها موضع التنفيذ، وقد أعانها على ذلك ما امتازت به من تكوين نفسي وروحي متين، وشخصيَّة قوية صلبة، ودافعيَّة للعمل والإنجاز والجهاد المتواصل؛ هيأها لتحمل رسالة النهوض بفئة هي أضعف فئات المجتمع وهي ثروته المستقبلية في نفس الوقت.

وحدة روماتيزم القلب في مستشفى أبو الريش

بدأت د.زهيرة أول خطوة في هذا السبيل بإنشاء عيادة خاصة بمرض روماتيزم القلب، تَكون فريق العمل فيها من د.زهيرة وطبيب امتياز واحد فقط. وملحق بالعيادة عشرة أسِرَّة داخلية لحجز الأطفال المرضى ذوي الحالات المتأخرة.

 سار أسلوب العلاج الذي اتبعته د.زهيرة في ثلاث محاور رئيسة:
1. الفحص الإكلينيكي:
الاهتمام بالفحص الدقيق والتشخيص السليم، ووصف العلاج اللازم وحجز الحالات المتأخرة في المستشفى.

2. التثقيف الصحي.
يهدف التثقيف الصحي( ) إلى التشخيص المبكر والعلاج والوقاية من الأمراض، وتزداد أهميته في الأمراض المزمنة التي ينتج عنها نسبة عالية من الوفيات والإعاقات مثل مرض روماتيزم القلب. أدخلت زهيرة عابدين مفهوم التثقيف الصحي في برنامجها العلاجي لمرض روماتيزم القلب، فكانت تجتمع بأمهات الأطفال مرة واحدة في الأسبوع تشرح لهن كيفية التعامل مع المرض في أحواله المختلفة، وتحرك فيهن الدافعية للمشاركة الفعالة والإيجابية في متابعة عملية العلاج والتفاعل مع الطبيب والمؤسسة الصحية للوصول لأفضل نتائج العلاج.

     ويجدر بالذكر أن استخدام مفهوم التثقيف الصحي في برامج الرعاية الصحية والعلاج مما تفتقده أنظمة المؤسسات الصحية في مصر الرسمية والأهلية والاستثمارية على السواء، وتهتم به المؤسسات الصحية في الغرب، ولاشك أن إدخال هذا المفهوم في برامج الوقاية والعلاج له بالغ الأثر على اقتصاديات واجتماعيات الطب والصحة في البلاد النامية على وجه الخصوص.    

3. البحث العلمي.    
     بعد مرور عام من العمل في وحدة أمراض روماتيزم القلب في مشفى أبو الريش مدة عام، أجرت د.زهيرة عدة أبحاث علمية إحصائية تكشفت عن الحقائق التي سبق الإشارة إليها في المقدمة.

     ويُعد إدخال أسلوب البحث العلمي في متابعة العلاج والتحقق من نتائجه أحد أسباب نجاح د.زهيرة في مكافحة مرض روماتيزم القلب، كما يُعد تفردًا لها في المجال الطبي العلمي، مقارنةً بالمؤسسة الصحية الرسمية التي لا تعتمد أسلوب البحث العلمي في طرائق العلاج في ظل ظروف ضعف التدريب البحثي في نظام التعليم الطبي وقلة موارد البحث العلمي وتكاليفه العالية.

جمعية أصدقاء مرضى روماتيزم القلب: الفكرة و البذرة والتنفيذ.

 ونتيجة للحقائق التي كشفتها الأبحاث الإحصائية اتضح أن العلاج الخارجي الذي تقدمه العيادة لا يجدي كثيرًا في تحقيق الشفاء، ولذلك حاولت د.زهيرة إنشاء مستشفى جامعي خاص لأمراض روماتيزم القلب للأطفال، ولكن لم يتحقق حلمها بذلك، فقررت بذل جهدها وجهادها في مكافحة المرض من خلال العمل الطوعي، وفكرت في إنشاء جمعية خيرية لمكافحة المرض، وما إن تجمع لديها مبلغ لا يتجاوز 700 جنيه حتى اتخذت قرارًا جريئًا وشجاعًا بافتتاح الجمعية في فيلا صغيرة في موقع جميل على سفح الهرم، حيث افتتحها السيد محمد توفيق عبد الفتاح وزير الشئون الاجتماعية رسميًّا في يوليو 1959م، ونالت الجمعية بعد ذلك الكثير من التبرعات الصادقة من أهل الخير كما تلقت عونًا وتأييدا من وزير الشئون الاجتماعية ومحافظ الجيزة. 

جمعية أصدقاء مرضى روماتيزم القلب للأطفال:الرؤية والأهداف والبرنامج

الرؤية والمفهوم

    رسمت د.زهيرة أسلوب العمل في الجمعية على أساس رؤية كلية ومتكاملة للصحة والمرض، فلم ترَ المرض كجزء منفصل عن بيئته، ولم ترَ مهمة الطبيب علاج ذاك الجزء المنفصل فقط، وإنما رأت المرض جزءًا بيولوجيًّا من كلٍّ بيئيّ ومن كل إنسانيٍّ كذلك، فأدخلت في برنامج الجمعية  العلاجي والوقائي والتأهيلي الأبعاد الاجتماعية والنفسية والثقافية والدينية والتربوية في تناغم  واتساق وواقعية كذلك.

كما رأت د.زهيرة أن حقل الطب الاجتماعي مكملٌ لحقل طب الأطفال، وإليها يعود السبق في إدخال مفهوم الطب الاجتماعي إلى المجال الطبي في مصر، وجعله مفهومًا حيًّا في تجربة مركز روماتيزم القلب في الهرم، حيث ترى د.زهيرة أن دور الطبيب لا يقتصر فقط على علاج الأمراض المختلفة إنما يتعداه للوقاية من الظروف الدافعة لهذه الأمراض، والاهتمام بمعرفة المشاكل الصحية الموجودة في البيئة والتخطيط للقضاء عليها، وقد بذلت د.زهيرة مجهودات كبيرة لتدعيم هذا الاتجاه عمليًّا في مؤسساتها الصحية وبين تلاميذها والعاملين معها في الحقل الطبي حتى أصبحت ذات مدرسة علمية متميزة( ) و نالت لقب "أستاذ كرسي طب المجتمع" تقديرًا لجهودها.

الأهداف

وحسب هذه الرؤية الصحية الاجتماعية، تحددت أهداف الجمعية وخطة العمل للقضاء على المرض والبرنامج العلاجي والوقائي والتأهيلي للجمعية كالتالي:
- أهداف علاجية: علاج الأطفال المصابين بروماتيزم القلب، والقيام بأبحاث علمية في هذا الميدان. 
- أهداف وقائية: مكافحة مرض روماتيزم القلب بشتى الأساليب (تثقيف – رعاية – علاج وقائي) من خلال برنامج يشمل جمهورية مصر العربية كلها.
- أهداف اجتماعية: تأهيل مهني للمصابين بعاهات قلبية، ورعاية الطلبة المحتاجين لتمكينهم من الاستمرار في الدراسة. 
- أهداف تعليمية: إنشاء مدرسة للتمريض والخدمة الاجتماعية الطبية.( )

البرنامج

وضعت د.زهيرة خطة شاملة للقضاء على مرض روماتيزم القلب في مصركما كانت تطمح، والخطة تشمل وسائل تخص الدولة ووسائل تخص الجمعيات ووسائل تخص الأسرة كما هو موضح بالتالي:

وسائل تخص الدولة:
توفير السكن الصحي، والرقابة الشديدة على تهوية أماكن التجمع.
زيادة الوعي الصحي بالمرض من خلال المناهج الدراسية وطرق الإعلام. 
تشجيع الجمعيات والهيئات الخاصة التي تخدم في هذا السبيل.

وسائل تخص الجمعيات:
التوسع في نشر عيادات الفحص والعلاج, وإعطاء الحقن وتتبع المرض.
توفير الوحدات والمستشفيات المتخصصة للعلاج الداخلي.
تدريب أكبر عدد ممكن من الأطباء والممرضات في هذا الاختصاص.
نشر الوعي الصحي بين أهالي المرضى.

وسائل تخص الأم والأسرة:
حسن التهوية  وتشجيع الأطفال على ممارسة الرياضة والمسارعة بمشاورة الطبيب عند حدوث العوارض الأولى للمرض. 
جمعية أصدقاء مرضى روماتيزم القلب في عشر سنوات:التوسع في الإنشاءات      والأنشطة:تحقيق الرؤية وتجسيد المفهوم: من علاج المرض إلى بناء الإنسان.

سرعان ما استطاعت د.زهيرة عابدين_بتوفيق الله وعون المخلصين_ تحقيق رؤيتها في الرعاية الصحية المتكاملة للمريض وأسرته على أرض الواقع. وشملت هذه الرعاية مراحل ماقبل المرض ( الوقاية) ومراحل المرض (العلاج والنقاهة) ومراحل مابعد المرض ( التأهيل والتعليم والتثقيف والتدريب المهني) بالإضافة لإدخال مفاهيم الصحة النفسية والاجتماعية والأبعاد التربوية والأخلاقية والدينية  في كل هذه المراحل، وتدريب فريق العمل كله على أسس ومفاهيم هذه المدرسة الطبية الإنسانية الاجتماعية. 
وبتطبيق هذه الرؤية المتكاملة استطاعات د.زهيرة الارتقاء بمستوى خدمة المؤسسة الصحية من مجرد علاج مرض إلى بناء إنسان متكامل فاعل في مجتمعه.

تجسدت رؤية ومدرسة د.زهيرة في توسعات الإنشاءات والمباني وتوسعات الأنشطة والبرامج العلاجية والتأهيلية، حيث نمت الجمعية خلال عشر سنوات من فيلا صغيرة تتسع لخمسة وعشرين سريرًا، إلى مبنى كبير يتسع لمائتين وأربعين سريرًا، تتم فيه مراحل الرعاية الصحية (العلاج _ النقاهة _العمليات) ملحق به:
معامل التشخيص السريرية الكيميائية والبكتيرية: تقوم بالوظائف التشخيصية بالإضافة لمهام البحث العلمي.
القسم الاجتماعي: ووظائفه: الرعاية الاجتماعية والتوعية الدينية والصحة النفسية والترفيه.
مدرسة دارالشفاء.
أقسام التدريب المهني.
بازار مركز القلب.

تحقق الهدف ونجاح النموذج

وفي خلال عشرين عامًا من العمل المتواصل في تنفيذ برنامج الرعاية المتكاملة، أسفرت جهود الجمعية في مكافحة المرض وخفض نسبة الحدوث من 67% إلى 4% فقط.كما أسفرت عن نجاح نموذج الرعاية المتكاملة للمريض، وعلاج المجتمع، وإمكانية تفعيله في المجتمع المصري في ظل الإمكانيات الحالية لبلادنا من حيث النواحي الاقتصادية والثقافية والعلمية والفنية. 
إن نجاح نموذج د.زهيرة عابدين يكمن في قدرة د.زهيرة على الخروج بمفاهيم الصحة الشاملة والرعاية المتكاملة من دائرة الأكاديميا المتخصصة في غرف المؤتمرات المغلقة إلى  تركيبية المجتمع بكل مشاكله البسيطة والمعقدة، وكل أبعاده الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لتنهض به مما هو واقع فيه إلى مستوى يقترب من الصورة المثالية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق